العدد الرابع ملف العدد

هجرة العقول خطر كبير يهدد المجتمعات العربية / ملف العدد

11/11/2020

أ.د. سلوان كمال جميل العاني

اختلفت أسباب الهجرات وغاياتها على مدى التاريخ، ونوع المجتمعات، والدُّول، وتُعدّ الهجرة نهجاً مُتّبعاً للأنبياء والرسل -عليهم السلام- في سبيل نشر الدعوة إلى الله تعالى، وحمايتها من كيد وبطش الظالمين، وكانت هجرة النبيّ محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، قبل 1442 سنة، خير هجرة عرفتها البشرية منذ بدء الخلق بدوافع الخلاص من الظلم والاضطهاد، وأذى المشركين وتعذيبهم في مكّة للصّحابة، رضي الله عنهم، وكسِر الحصار الاقتصادي والاجتماعي الذي فرضته قبيلة قريش على المسلمين في مكة. لقد كانت هجرة المسلمين تنويراً للعقول بدلا من تغييبها، وإقرارا بوحدانية الخالق المطلقة للكون، والتحول من الباطل إلى الحق، ومن الكسل الى العمل، ومن الفرقة والكراهية إلى الوحدة والسلام والأمان، ومن الظلم الى العدل، ومن الظلام الى النور، التي أدت الى قيام دولة الإسلام في المدينة، على أُسُس الحق، والعدل، والحرية، والمساواة، والوحدة والمحبة والتكافل والتآخي والحرية والمساواة وضمان الحقوق، وبناء جسور للانطلاق الى العالم لتحقّق عالميّة الإسلام.

إن مقياس إدارة الموارد البشرية، وإدارة الاقتصاد، يعتمد على استثمار العقول، فإذا سيطر في دولة ما أصحاب العقليات المحدودة، والفاسدون، والمنافقون، وتبوؤا المناصب بالدولة، أُغلقت السبل أمام اصحاب الكفاءات، والأدمغة، والدرجات العالية من التعليم والمهارة، مما يضطرهم للهجرة. وأشارت دراسة بجامعة الدول العربية خلال السنوات الأخيرة إلى أن مجموع عدد الكفاءات العلمية العربية في الخارج يصل الى  1091282 كفاءة علمية .

وتعود دوافع هجرة العقول، في العصر الحديث، لأسباب اقتصاديّة وإداريّة، وعدم وجود ملاذ آمن يحمي هذه الكفاءات من العنف، واستهداف حرية الإبداع، أو بسبب حالات الفوضى الأمنية، وعدم توافق السياسات التعليميّة مع احتياجات التنمية، وضعف عمليّات البحث العلميّ، وقلّة الإمكانيّات المُتاحة له، والتشريعات التي يعتريها الخلل، وتعقيد الإجراءات في الأجهزة الإداريّة، والفساد المالي، والإداري، وتهميش العلماء في بعض الدول، وعدم توفير البيئة  المناسبة لهم، وعدم الثقة في أفكارهم الجديدة، ومعاناتهم من عدم وجود تخصّصات ومواقع تفي بمؤهّلاتهم العلميّة.

وهناك أسباب أخرى جاذبة لهجرة العقول، منها: التقدُّم الاقتصاديّ، والمستوى المعيشيّ المرتفع في الدُّول التي تتمّ الهجرة إليها، وتوفُّر الوسائل اللازمة للبحث العلميّ، والتطوير، إضافة إلى توفير الفرص للمُتخصِّصين، وتوفُّر الاستقرار السياسي، والنفسيّ، والأمنيّ، والديمقراطيّ، وتشجيع السياسات والقوانين في الدُّول المُتقدّمة، وتحفيزها المُتخصِّصين وذوي الكفاءات بهدف جَذبهم إليها، وتزايد نسبة الطلب على العمالة المُتخصِّصة في سوق العمل.

 ولهجرة الكفاءات والأدمغة أثار سلبية تنعكس على شتى مجالات الحياة، ومن أبرزها: اتساع  الفجوة بين الدُّول المُتقدِّمة الجاذبة، والدُّول الأصليّة، وتبعيّة الأدمغة والكفاءات ثقافيّاً للدُّول التي هاجروا إليها، وزيادة الإنفاق، وذلك عبر توظيف كفاءات من الدُّول الأخرى لسَدّ النَّقص، ممّا يجعل الخسائر المادّية التي تمّ إنفاقها على تعليم الكفاءات المهاجرة، خسارة هائلة، وضعف إجراء البحوث العلميّة، ممّا يعني تبعيّة الدُّول الفاقدة للكفاءات، للدُّول الجاذبة لها. 

وتعتبر هجرة العقول العربية، خسارة في مجال التعليم في جميع مراحله، إذ يبلغ معدل الأمية في الوطن العربي حاليًا نحو 49%، ويشكل هذا الرقم أحد المعوقات الرئيسية أمام التنمية العربية في عصر تمثل فيه الكفاءات العلمية والتقنية والمعرفة المصدر الرئيسي للتفوق والتنافس بين الأمم. 

وتشير الإحصاءات إلى أن ثلاث دول غربية غنية وهي الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا تحصل على 75% من المهاجرين العرب، بل أكثر من ذلك ، قامت بعض الدول الغربية بمنح جنسياتها للعقول العربية المهاجرة كي تنسب إبداعاتها لها بالكامل. 

وبحسب الدراسات فإن الوطن العربي يساهم بـ 31% من الكفاءات والعقول المهاجرة من الدول النامية، كما أن  50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا.

وقدر أحد تقارير منظمة العمل العربية أن الخسائر التي تتكبدها الدول العربية سنويًا لا تقل عن 200 مليار دولار بسبب هجرة العقول إلى الخارج، وتقترن هذه الأرقام بخسائر كبيرة نجمت عن تأهيل هذه العقول ودفع كلفة تعليمها داخل أوطانها، مما يؤكد أن الدول العربية، ومعها سائر الدول النامية تقدم مساعدات إلى البلدان المتقدمة عبر تأهيلها لهذه الكفاءات ثم تصديرها إلى هذه البلدان المتقدمة لتفيد من خبراتها العلمية.

ومما يلفت النظر أن عددًا كبيرا من المهاجرين العرب، في الدول الغربية، يعملون في التخصّـصات العلمية والتكنولوجية الاستراتيجية، كما تشجع الكثير من الدول الغربية المتقدِّمة العقول والأدمغة العربية النابغة المهاجرة على البقاء لديها. 

وظهرت في العصر الحديث الهجرة القسرية للعلماء والأكاديميين والمهندسين والأطباء، وهذا ما تعرضت له الكفاءات العلمية في العراق من هجرة  7350 عالمِـًا في مختلف المجالات بالفترة الاولى الواقعة بين 1991-1998 إلى دول عربية وأجنبية نتيجة الحصار الدولي الذي كان مفروضاً على العراق انذاك، منهم 67% من أساتذة جامعات و23% ممنْ يعملون في مراكز أبحاث علمية.

وكانت الخطوة الأشد خطورة هو القرار1441 لمجلس الأمن الدولي في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2002، إذ نصت إحدى فقراته على أنَّ لجنة الامم المتحدة للرصد والتحقق والتفتيش والوكالة الدولية للطاقة الذرية «تتمتع بالحق في أن يزودهما العراق بأسماء جميع الأشخاص الذي لهم علاقة حالياً وسابقاً ببرامج العراق الكيميائية والبيولوجية والنووية».

مما يعني أن حياة العلماء العراقيين قدمت على طبق من ذهب لجهات خارجية، بعد أن أصبحت على أتم دراية بإسمائهم، وعناوينهم، وكيفية الوصول إليهم، خاصة مع قرب حرب احتلال العراق، التي جرت بعد شهرين فقط من صدور هذا القرار، مما يسر عملية تصفية العلماء بشتى الوسائل.

ونتيجة لذلك تعرض بالفترة الثانية ما بين ابريل 2003م وحتى وقت قريب عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس  في شتى الإختصاصات (طب،هندسة،تربية،علوم، كيمياء، وعلوم انسانية) إلى الخطف والقتل، في حين إضطر الألاف منهم الى الهجرة تحت التهديد إلى دول العالم المختلفة حفاظًا على حياتهم وهو ما أثر بالسوء على حركة الحياة العلمية في العراق وأوقف عجلة التقدم فيه. حيث أشار تقرير شبكة رصد حقوق الانسان في العراق الذي نشر في 2005 إلى أن عدد الذين قضوا برصاص الاغتيال في العراق حتى نهاية أذار 2004 بلغ اكثر من 1000 عالم عراقي. 

ويتضح أن هذا المخطط موجه ضد العراق، بالدرجة الأولى، حيث إن مؤسسات التعليم العالي قد حرقت أو نهبت أو دمرت؛ لأهداف ودوافع عدة منها: إفراغ البلد من باحثيه، وأكاديميه، وعلمائه، وتدمير هويته الثقافية، والعلمية، ووقف عجلة التطور فيه، وأعادته عشرات السنين إلى الوراء، و يعد العراق من أكثر الدول تضررًا جراء هجرة كفاءاته العلمية فهو من البلدان النامية، وبتَعداد سكاني عال، ويحتاج إلى الكثير من الخبرات، والكفاءات العلمية من أجل النهوض بواقعه المتردي، وخسر حصاد أربعين عامًا من العمل والتخطيط وإرسال بعثات دراسية إلى الخارج من أجل النهوض بالواقع العلمي والصحي فيه. إن مسألة عدم احترام العِلم والعلماء والاستخفاف بهم، وعدم توفر بيئة مناسبة للبحث العِلمي والإبداع، إضافة إلى ضعف الإنفاق على البحث العلمي، وعدم توافر فُرص العمل المُتاحة لتخصّصات نوعية، كلّ ذلك يؤدّي إلى استمرار نزيف الهجرة.

وربما يكون أحد الحلول لإيقاف نزوح الادمغة العربية هي دعوة أحد الخبراء العرب لجامعة الدول العربية إلى وضع استراتيجية عربية للتعامل مع ظاهرة هجرة الأدمغة العربية، واعتبارها قضية أمن قومي عربي بعدما غدت المجتمعات العربية بيئات طاردة للكفاءات والأدمغة العِـلمية العربية، لا ‏حاضنة لها.

 

 

العدد الرابع د. سلوان العاني ، هجرة العقول ، المجتمعات ، الحصار الاقتصادي ،

مواضيع ذات صلة