التوازن النفسي والسلام الداخلي: رؤية قرآنية لإدارة المشاعر وتقبل الحياة
د. محمد سلامة غنيم | Dr. Mohammed Salama Ghonaim
10/03/2025 القراءات: 10
تُمثِّل الآية الكريمة "لِئَلَّا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ" ركيزةً عميقةً في بناء التوازن النفسي والسلام الداخلي، حيث تُقدِّم رؤيةً متكاملةً لإدارة المشاعر الإنسانية في مواجهة تقلبات الحياة. فالحكمة الإلهية هنا لا تُنكر طبيعة الإنسان العاطفية، بل تُرشده إلى الاعتدال في تفاعله مع مكاسب الحياة وخسائرها، بما يعزز مرونته واتزانه.
أولًا: التوازن النفسي بين الفقد والعطاء
يدعو المبدأ القرآني إلى تجنُّب الوقوع في فخين: الحزن المفرط على ما فات، والفرح المبالغ فيه بما تحقق. فكلا الشعورين، وإن بدَا طبيعيًّا، قد يتحول إلى مصدر اضطراب داخلي إذا تحكَّم في الإنسان. فالحزن الطويل على الخسارة يُغذي الشعور بالعجز ويُضعف القدرة على التكيُّف، بينما الفرح الزائد بالمكاسب قد يُلهي عن مسؤولية الاستفادة منها أو يُسبِّب الغرور. هنا يتجلَّى دور هذا التوجيه كـ(منهج وقائي) يحمي الفرد من التقلبات الحادة التي تُهدِّد استقراره النفسي.
ويُشير هذا التوازن إلى مفهوم (الاستقرار العاطفي) في علم النفس الحديث، الذي يُركز على أهمية تنظيم المشاعر دون كبتها أو إنكارها. فالإسلام لا يدعو إلى عدم الشعور، بل إلى إدارة الشعور عبر وعيٍ يُذكِّر الإنسان بأن كل ما يأتي ويذهب هو جزء من اختبار الحياة، وأن القيمة الحقيقية تكمن في كيفية التعامل مع هذه التقلبات بإيمان وحكمة.
ثانيًا: السلام الداخلي عبر التحرر من التعلُّق
يُعزِّز هذا المبدأ القرآنية (التحرر من التعلُّق بالماديات والنتائج)، وهو ما يتوافق مع مبادئ الفلسفات الروحية التي تدعو إلى العيش في الحاضر. فالتعلُّق بالماضي (من خسائر أو ذكريات) يولِّد الندم، والتعلُّق بالنجاحات المادية يولِّد الخوف من فقدانها. أما حين يتذكَّر الإنسان أن كل شيء بقدر، وأن العطاء والمنع له حكمة إلهية، فإنه يكتسب مناعةً ضد التقلبات الخارجية، ويُحوِّل تركيزه إلى (الجوانب الروحية والمعنوية) التي تمنحه طمأنينة دائمة.
هذا الفهم يُسهم في بناء (سلام داخلي)، حيث يصبح الفرد قادرًا على مواجهة التحديات دون انهيار، والاستمتاع بالنعم دون غفلة. كما يُقلِّل من سيطرة القلق المستقبلي أو الحزن الماضي على تفكيره، مما يُعزز حالة من (الرضا الواعي)، وهو ما تؤكده الدراسات النفسية كعامل أساسي للسعادة.
ثالثًا: تطبيقات تربوية وعملية
لترسيخ هذه الحكمة في الحياة اليومية، يمكن اتباع خطوات عملية، مثل:
1. التدرب على التأمل والتفكر: بتخصيص وقت يومي لمراجعة المواقف بهدوء، وفهمها ضمن سياق أوسع.
2. تعزيز مفهوم القناعة: عبر التركيز على النعم المستمرة (الصحة، العلاقات، الإيمان) بدل التعلق بالمتغيرات المادية.
3. تبنِّي نهج الشكر والصبر: فالشكر على النعم يحول الفرح العابر إلى امتناع دائم، والصبر على الخسائر يحول الألم إلى درس ونمو.
4. التذكير بالغاية الوجودية: بأن الحياة اختبارٌ مؤقت، وأن القيمة الحقيقية تكمن في العمل الصالح والعلاقة مع الخالق.
ختامًا:
الآية الكريمة ليست مجرد توجيهٍ عابر، بل هي (فلسفة حياة) تُعيد تشكيل وعي الإنسان تجاه نفسه والعالم. فبقدر ما نتدرب على الاعتدال في مشاعرنا، بقدر ما نكتشف أن السكينة الحقيقية ليست في امتلاك الأشياء، بل في امتلاك القدرة على إدارتها بحكمة. وهكذا يصبح التوازن النفسي والسلام الداخلي ثمرةً طبيعيةً لفهمٍ عميقٍ لسنن الحياة، وإيمانٍ راسخٍ بحكمة من يديرها.
تربية، فكر، نهضة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة