تطليق الزوجة على زوجها بسبب الهجر
سيف بن سعيد العزري | SAIF BIN SAID ALAZRI
26/11/2021 القراءات: 4285 الملف المرفق
أصدرتُ حكماً في دعوى شرعية حينما كنت قاضياً بالمحكمة الابتدائية بنزوى بسلطنة عمان، كان الحكم نتاج بحث علمي، دار حول تطليق المرأة على زوجها بسبب الهجر. ومفاد البحث أنّه إذا ما هجر الرجل زوجته في الفراش ولم يعطها حقّها في الوطء فهل يكون ذلك سبباً مسوّغاً لتطليقها على زوجها؟، وكانت نتيجة البحث أنّه: من المعلوم أن الله تعالى جعل من غايات الزواج السكن وحصول المودة والرحمة في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} الروم:21، فحين تتلاشى كل دواعي السكينة وتنتفي كل وشائج المودة والرحمة يكون لزاماً فصم أواصر العلاقة الزوجية لقوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} البقرة: من الآية: 229، وقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ} البقرة: من الآية231، وقوله: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} النساء: ١٢٩، كما أنّ الله تعالى أعقب ذكر الحض على الصلح بين الزوجين عند خوف النشوز والإعراض وكذا ذكر النهي عن ودع المرأة كالمعلّقة أحد خيارين؛ إما الإصلاح أو التفريق، حيث قال: {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (129) وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)} النساء: ١٢٩ -١٣٠، فلا معنى لاستمرار زوجين في ظلّ حياة زوجيّة لا يجنيان منها إلا النكد والشقاء، وما يزيدهما قربهما إلا عداوة وبغضاء، فعلى كلٍّ من الزوجين حينها التزامٌ شرعيٌّ حسب الحالة ومن تكون منه الاساءة؛ فحين تكون الإساءة من قبل الزوجة فلا يجوز لها طلب الطلاق لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلمّ -: (أيّـما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأسٍ فحرام عليها رائحة الجنة)، ومع هذا إذا كرهت زوجها فخافت ألا تؤدي حقه عليها جاز لها أن تطلب الخلع بمقابل تدفعه لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} البقرة: من الآية229، وجاز له أخذ المقابل ويخلي سبيلها، وعلى هذا جاء حديث أول خلع في الإسلام بين ثابت بن قيس وزوجته حبيبة بنت سهل، وحين تكون الاساءة من الزوج فعليه تلافي التقصير واجتثاث أسباب الخلاف سعياً في الإمساك بالمعروف، وإلا كان التسريح بإحسان بأن يطلقها، وليس له -فيما إذا أساء إليها بغية مضارّتها حتى تعرض الخلع -أن يأخذ منها شيئاً من المال وإلا كان سحتاً لقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ} البقرة: من الآية229، أما إذا تعسّف كلٌّ منهما في استعمال حقه، وَرَفَع المتضرر الأمر إلى القضاء نظر القاضي في أمرهما سعياً في رفع الظلم عن المظلوم، بحكم ولايته العامّة في رفع الضرر عن الناس للقواعد الشرعية: "لا ضرر ولا ضرار" و"الضرر مرفوع"، فإن أدى الأمر إلى التفريق بين الزوجين فذلك جائز له شرعاً، وقانوناً على ما جرى قانون الأحوال الشخصية حيث نصت المادة (أ/101) أحوال شخصية على أنه "لكلٍّ من الزوجين طلب التطليق للضرر الذي يتعذر معه دوام العشرة بينهما ...، إذا عجز القاضي عن الإصلاح وثبت الضرر حكم بالتطليق مع مراعاة المادة (107) من هذا القانون"، كما أنه من المعلوم فقهاً أنّ الضرر هو ما لا يجوز شرعاً (ينظر الشرح الكبير للدردير 2/345)، ويلاحظ أنّ قانون الأحوال الشخصية قد اشترط في هذا الضرر أن يكون مما يتعذر معه استمرار العشرة بين الزوجين، وهذا الاشتراط وإن لم أجد من نصّ عليه من العلماء الذي أجازوا التطليق للحاكم إلا أنّ السياسة الشرعية والمقاصد الشرعية تقتضيه حفاظاً على كيان الأسرة من التفكّك لأدنى سبب مع تفشي ظاهرتي الطلاق والعنوسة في المجتمع واجتياح الفساد للقيم والأخلاق اجتياح الإعصار لمظاهر الحياة، كما أنّ المتأمل في الأحكام الشرعية يرى الحرص على بقاء العلاقة الزوجية أكثر من الحكم بفصمها، لا سيما في هذا العصر الذي تلاطمت فيه أمواج الفتن واشتدت فيه أعاصير الفساد، ومن المعلوم أنّ الضرر يشمل الضرر المادي والمعنوي؛ فالضرر المادي هو كل ما يلحق الأذى ببدن الشخص كالضرب، والضرر المعنوي هو كل ما يلحق الألم بنفس الشخص كالسب وترك الكلام معه وعدم الإصغاء لحديثه وترك المبيت بالفراش وترك الوطء، ومن المعلوم أنّ هجر الزوج لزوجته من شأنه أن يضرّ بها لعدم إيفائها حقها في الوطء ولا شكّ أنّ لها حقاً في ذلك، وهو حق متجدّد؛ لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} البقرة: ٢٢٨، ولحديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبد اللَّه ألم أُخْبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى يا رسول اللَّه، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً ..." رواه البخاري ومسلم، والحق المتبادر هو حق الوطء، وهو ما تفيده رواية النسائي لقصّة الشاكية الوارد على إثر شكواها الحديث المذكور؛ إذ ورد فيها قولها: لم يطأ لنا فراشا ولم يفتش لنا كنفا، كما أنّ جمعاً من الفقهاء نظروا إلى علة النص الوارد في الإيلاء، فأجازوا للقاضي التفريق بين الزوجين إذا امتنع الزوج عن معاشرة زوجته وسببّ لها ضرراً، كما أنّهم قد اختلفوا فيما لو تركها مضراً لها هل يضرب له أجل؟ قولان؛ قيل: يضرب له أربعة أشهر، وقيل: لا يضرب له أجل، وعليه أبو حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد (ينظر الواضح في شرح قانون الأحوال الشخصية لعمر سليمان الأشقر 269و270)، فلما ثبت هجر الزوج لزوجته بإقراره مدة سبع سنين، حكمت المحكمة بتطليقها على زوجها.
حكم قضائي، تطليق، هجر، صلح
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع