على قدم المساواة... رؤية تشخيصية 1- 3
يحيى أحمد المرهبي | Yahya ahmed almerhbi
30/08/2021 القراءات: 1637
المساواة أصل قررته الرسالات السماوية لثباته في الطبيعة البشرية، ورسوخه في الفطرة الإنسانية، وأقرته دساتير وقوانين الدول على اختلاف توجهاتها. والحضارة الإسلامية تؤكد دائما مبدأ (المساواة)، وتقبل في الوقت ذاته (عدم التماثل). وقد قرر الإسلام مبدأ المساواة في الوقت الذي كان فيه البعض يدعي أنه من نسل الآلهة؛ لأنهم من نوع آخر غير نوع البشر. وفي هذا الوقت جاء الإسلام ليقرر المساواة أمام القانون وأمام الله في الدنيا وفي الآخرة. لا فضل إلا بالعمل الصالح، "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".
في هذا الإطار، تصبح المساواة شكلاً من أشكال تحقيق الإنسانية وتحقيق جوهر الإنسان، حسب وصف الدكتور المسيري، فهي شكل من أشكال الاجتماع البشري وتحقيق لقيمة مطلقة متجاوزة للمادة والطبيعة، بل متجاوزة لدوافع الإنسان الماديـة والجســدية، أي تجــاوز لمــا يســمَّي "الإنسان الطبيعي/ المادي" واقــتراب لمـا يمكن أن نسميه "الإنسان الربـاني" الذي يحوي داخله عناصر لا يمكن ردها إلى النظام الطبيعي/ المادي.
والمساواة لهذا السبب، هي مفهوم (إنساني أخلاقي ديني) يستند إلى أساس غير مـادي (مرجعية متجاوزة)، أما ما يسمى "بالمسـاواة" في العصر الحديث فهي في واقع الأمر (تسوية لا مساواة)، تتم في إطار مرجعية مادية كامنـة، أي أنها عمليـة تفكيـك للإنسان وتدمير وتقويض لـه ككيان مستقل عن الطبيعة / المادة. وقد يتم مســاواة الإنسان بالإنسان الآخر، ولكن يتم (تســويتهما) بالإنسان الطبيعي المادي الذي يتساوى في كل الوجوه مع الكائنات الطبيعية الأخرى.
ويفرق الدكتور المسيري بين مفهومي المساواة والتساوي فيقول: "المساواة هي أن يتعادل شيء ما وآخر في "بعض" الوجوه وحسب، أمـا "التسوية" فهي إحداث التساوي بين شيئين في كل الوجوه. والمساواة بين البشر هي مساواة بينهم في الأساسيات الإنســانية (أي فيما يميز الإنسـان كإنسـان)، أما التسوية فهي تسوية بين كـل المخلوقات (البشــر والحيوانــات والجمـادات) في كـل الوجوه تقريباً. وكل من "المسـاواة" و"التسوية" نتــاج عملية تجريدية، لكن المساواة تتــم في إطار المرجعية المتجاوزة، والإيمان بأن الإنسان مقولـة مســتقلة عن عــالم الطبيعة / المادة رغم وجوده فيها.
والمساواة أمرٌ يتشوَّفُ إليه الشَّارع الحكيم، لكن ينبغي ألا يكون ذلك على حساب العدالة، فإنَّ تحقيق العدالة مقدَّم على مبدأ المساواة، وأنَّ التَّشريع مع المساواة دوماً، ولكن إذا أضحت المساواة مجهِضةً للعدل، قاضية عليه، فإنَّ العدل هو ما يستقرُّ عنده الحكم ويستتب. فالمال ـ مثلا ـ يُعدُّ عصب الحياة، وجُعل حفظُه واجباً شرعيّاً لا يقبل التَّساهل، لكونه يشكِّل كليّةً من الكليَّات التَّشريعيَّة الضَّروريَّة الَّتي بها قوام الحياة واستمرارها، وأنَّ من ينتهك حرمته بالاعتداء عليه؛ يستحق العقوبة عاجلاً أم آجلاً، ولكن هذا لا يعني بالضَّرورة أن يُتَّخذ معياراً ذهبيّاً وحكماً عدلاً، يُحتكم إليه في الحكم على الأشياء، بالأفضليَّة أو بالدُّونيَّة.
فمن المنظور الإسلاميّ؛ ليس مَن أوتي مالاً وثروةً، هو الأفضل والأكرم مِن الّذي قدر عليه رزقه، فالغنى ليس مقياساً لتكريم الغنيّ وتفضيله، كما أنَّ الفقر ليس هو الآخر المقياس لإهانة الفقير واستصغاره. د. صالح قادر الزنكي. وهذا بخلاف الرؤية الشيوعية في المساواة التي لا تذهب فقر الفقير ولكن تذهب بغنى الغني، فتحقق المساواة ولكن في الحاجة والفقر.
إن المساواة بين بني آدم قائمة على أساس القيمة الإنسانية المشتركة، فالناس جميعاً متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية، وأنه ليس هناك جماعة تفضل غيرها بحسب عنصرها الإنساني وخلقها الأول. وإذا كانت المساواة بين المتساويين (عدلاً خالصاً) فإن المساواة بين المتخالفين (ظلم واضح). "ومعاملة الجميع بالتساوي معناها تجاهل الفوارق فيما بينهم". وفق عبارة روبرت غرين
وإذا كانت قيمة المساواة تشير إلى جملة من الحقوق تفترض تساويا بين الناس والبشر جميعا، فإن عناصر الاختلاف هي في الواقع عناصر تمايز في إطار التعارف. إنه اختلاف تكامل وتفاعل وتقسيم للعمل كلٌ بما يحسن ضمن منظومة تراعي حقائق المساواة وسنن الاختلاف. د. سيف الدين عبد الفتاح. وتكافؤ الفرص التعليمية -خلافا لما يعتقده البعض- ليس المقصود منه المساواة الشكلية القائمة على معاملة جميع الأفراد بنفس الطريقة، بل المقصود منه هو تعليم كل فرد ما يناسبه، بالطريقة والسرعة الملائمتين له.
والمساواة في (إطلاقها) هي إهدار لآدمية الإنسان، كما أن الحرية في إطلاقها هي نوع من الفوضى، إن المحور الأول والذي يجب أن تنبع منه قيم الحرية والمساواة هو مبدأ العدالة. والمتأمل في المحاورة الأفلاطونية يجدها تنتهي إلى نتيجة هي أن العدالة الاجتماعية معناها أن يوضع الناس في البناء الاجتماعي بحسب قدراتهم، وما دامت هذه القدرات ليست متساوية، فلا يجوز أن تتدخل فكرة المساواة لتفسد معنى العدالة، في إشارة أوردها د. زكي نجيب محمود في كتابه مجتمع جديد أو الكارثة.
وكل حضارة تسعى إلى تأكيد قيم معينة تتميز بها وتصير عَلَمَا (بفتح العين واللام) عليها، وهنا يجب أن نتذكر كيف أن المشكلة الحقيقة في نطاق التطور السياسي لا تعني فقط تحديد القيم بقدر ما تعني تحديد (العلاقة التصاعدية)، حسب تعبير د. سيف الدين عبدالفتاح بين القيم وما يستتبع ذلك من نتائج بخصوص قواعد التعامل من جانب وعناصر التقييم للسلوك من جانب آخر، ولهذا فلا توجد حضارة ترفض الحرية أو تشكك في مبدأ المساواة على سبيل المثال، ولكن المشكلة تبرز عندما تصطدم الحرية بالمساواة أو المساواة بالعدالة أو مبدأ الشورى أي (المشاركة السياسية) بالعدالة وهكذا، وهو ما يعرف بسلم القيم.
المساواة - العدالة - رؤية تشخيصية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع