الانتصار لإجماع المسلمين في إقامة شعائر الدين (1)
دكتور حسن أبو الخير | Dr. HASSAN ABULKHAYR
19/06/2020 القراءات: 3705
احتج من أفتى بوجوب إغلاق المساجد وتعطيل الجمع والجماعات (لفيروس كورونا) بأن «مدار الفتوى على الاجتهاد».
أقول: من المعلوم عند أهل العلم أنه «لا اجتهاد مع نصٍّ»، وقد وُجِدَ النصُّ في هذه المسألة، وهو الإجماع على عدم جواز تعطيل المساجد من الجُمع والجماعاتِ كما نقله ابن عبد البر والطحاوي وابن القطان، والإجماع هو الدليل الثالث من الأدلة الشرعية، كما هو معروف في علم الأصول.
ومن المعروف منه أيضًا، أن أول ما يبدأ به المجتهد في استخراج حكم المسألة هو البحث عن الإجماع، فإن وجده يقول به ولا يلتفت إلى ما سواه.
وبعضهم يستطرد قائلًا: فـ«المصيب له أجران والمخطئ له أجر».
أقول: الحق أنَّ الأجر والأجرين الواردَيْنِ في الحديث هو في الحاكم أو القاضي كما هو لفظ حديث عمرو بن العاص في الصحيحين مرفوعًا: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»، ولفظ المسند: «إذا قضى القاضي».
فهذا هو الاجتهاد الشرعي المعروف في السنة، وهو الذي جاء في حديث معاذ المرسل لما بعثه النبي إلى اليمن فقال له: «أرأيت إن عرض لك قضاء كيف تقضي»؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: «فإن لم يكن في كتاب الله»؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: «فإن لم يكن في سنة رسول الله»؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو.
وهو كذلك المعروف عند الصحابة والتابعين، ففي كتاب عمر المشهور إلى شريح لما بعثه على قضاء الكوفة: «إذا وجدت شيئًا في كتاب الله فاقض به، ولا تلتفت إلى غيره، وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقض بما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما أجمع عليه الناس، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيرا لك». وجاء مثله عن ابن مسعود.
ثم إن الأجر للحاكم والقاضي لحكمهما بحكم الله، ولكن إن أخطأوا التنزيل على الواقعة والحادثة، يرفع عنهم الخطأ؛ لدقة الأمر الذي قال فيه النبي في الصحيحين: «إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار». وإن أصابوا التنزيل على الواقعة فقد اكتسبوا أجرًا ثانيًا.
ومن سواهم إن أخطأوا في استخراج حكم الله كانوا مؤاخذين إن قَصَّرُوا في استنباط الحكم الشرعي بطرقه ومصادره الصحيحة؛ لحرمة القول على الله بغير علم: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
وإن بذلوا جهدَهم في استنباط الحكم الشرعي ولم يقصِّروا فيه، وسلكوا السبل النبوية والصحابية، فهم إلى العفو أقرب. فأمرهم إن أخطأوا دائر بين المؤاخذة والعفو.
وبهذا يتضح أن الذين زعموا أن المسألة اجتهادية وهم ينالون بذلك الأجر أو الأجرين عندهم قصور في فهم السنة وخطأ في التطبيق؛ فإن هؤلاء قَصَّرُوا في سلوك السبل الصحيحة لاستخراج الحكم الشرعي، وسُلُوكُها هنا بما قرروه أنفسهم في الأصول وهو: البحث عن الحكم في إجماعات المسلمين، وهي مسطرة في كتب معروفة لأدنى طلبة العلم.
وبعضهم يستطرد بقوله: «والقاعدة: أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد أو الخلاف»، وبعضهم يحكي عليها الإجماع.
أقول: إذا كانت المسائل المجمع عليها –كمسألتنا هذه- محل اجتهاد ولا إنكار على المخالف فيها، فماذا يبقى بعد هذا من ديننا، مع كثرة المسائل الخلافية.
ثم هذه القاعدة التي قعَّدوها ليس لها مستند من الكتاب ولا من السنة، وليست مأثورة عن أحد من الصحابة، ولا السلف، وها هي كتبهم بين أيدينا فليخرجوها لنا من كلامهم، بل الوارد عنهم خلاف ذلك تمامًا، فإنكارهم على المخالف للكتاب والسنة والإجماع مشهور جدًّا.
ومن ذلك إنكار عمران بن حصين على أمير المؤمنين عمر نهيَه عن التمتع في الحج، وإنكار ابن عباس على من اتبع قول أبي بكر وعمر في التمتع وترك اتباع النبي فيها، وأنكر عليٌّ على عثمان نهيه عن المتعة أيضًا.
وأنكر أبو الدرداء وعبادة بن الصامت على معاوية في بيع الفضل.
وأنكرت عائشة على عمر قولَه: «إذا رميتم الجمرة وذبحتم وحلقتم, فقد حل لكم كل شيء حُرِّم عليكم إلا النساء والطيب».
وأنكر أبو سعيد الخدري على مروان بن الحكم لما أراد أن يخطب العيد قبل الصلاة.
وأنكر ابن عباس على طاوس لما رآه يصلي بعد العصر.
ونظر سعيد بن المسيب إلى رجل صلى بعد النداء من صلاة الصبح, فأكثر الصلاة، فحَصَبَه.
وأنكر الزهري على الحكم بن عتيبة في عدة أم الولد.
وغضب وكيع غضبًا شديدًا، لما قال له رجل في الأشعار مُثْلة.
وأنكر الإمام أحمد على أبي ثور ودعا عليه، لما أجاز نكاح المجوسيات، وقال: «لا فرج الله عمن يقول بهذا القول»؛ لإجماع الصحابة على تحريم مناكحتهم.
وهذا باب واسع لا يُحصى ما جاء عنهم من الإنكار على المخالف لكتاب الله وسنة رسول الله والإجماع، ولم يكونوا يقولون: «لا إنكار في مسائل الخلاف»، وإنما هذا معروف عن بعض طوائف من الفقهاء المتأخرين الذين أعوزتهم النصوص فاختلفوا، ثم اصطلحوا على عدم إنكار بعضهم على بعض؛ لكثرة اختلافهم، ووهاء حججهم.
ثم العجب أن بعضهم يحكي الإجماع عليها، ولم ينص أحد من هؤلاء المتأخرين على إجماعهم عليها، ولكنهم لما وجدوا كثيرًا من هؤلاء يذكرون هذه القاعدة في كلامهم ظن أنه مجمع عليها.
وهذه طريقة بعض أهل زماننا ممن ينتسب إلى العلم والفتوى أنه يحكي الإجماع على حكم، لكونه رآه في كلام عدة من أهل العلم، ولم يطلع –مع قصور اطلاعه- على غيره.
وهذا مسلك رديء؛ فإنَّ أهل العلم ممن سبقونا كانوا إذا لم يجدوا أحدًا يخالف في حكم المسألة يقولون: «لا أعلم له مخالفًا»، ولا يجزمون بحكاية الإجماع، كما هو معروف من كلامهم.
الانتصار الإجماع شعائر الاجتهاد إغلاق المساجد الجمع الجماعات كورونا الفتوى الحاكم القاضي تعطيل
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف