مدونة مصطفى عبد القادر حافظ فتح الله الشرقاوي


من تناسب الفاصلة في السبع الطوال

مصطفى عبد القادر حافظ فتح الله الشرقاوي | moustafa abdelkader hafez fath allah elsharkawy


11/07/2021 القراءات: 1440  


في قوله تعالى ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (القرآن، 2: 37)، التوبة من الله على العبد هي العطف والتفضل عليه، والتوبة من العبد إلى الله عز وجل هي الرجوع إلى طاعته تعالى؛ طمعا في طلب ثواب، أو خشية عقاب، أو رفع درجات؛ لذا أعقب الصفة الأولى التَّوَّابُ بصفة الرَّحِيمُ، لأن قبول توبة العبد لا يكون إلا برحمة من الله عز وجل لعبده، فقدم التَّوَّابُ لمناسبة فتاب عليه، وختم الفاصلة بقوله: الرَّحِيمُ تحقيقا لدلالة السببية بين التوبة والرحمة بالإضافة لتناسب صوت الفواصل (أبو حيان الأندلسي، 1999).
يُلاحظ الباحث مراعاة التناسب في الفاصلة في تقديم التَّوَّابُ وتأخير الرَّحِيمُ فالتقديم للتناسب مع الفعل والتأخير للتناسب الصوتي للفاصلة؛ حيث خُتمت الآية السابقة بكلمة (حين)، وهي مقطع صوتي طويل مغلق cvvc يتطابق مع المقطع الأخير في كلمة (الرحيم)، كما أن صوتي النون والميم متشابهان ومتجانسان صوتاً، فهما من الأصوات التي تُعدّ شبه صائتة أو كما أُطلق عليها أصوات بينية (بشر، د.ت.)، هذه الخاصية أعطت الصوت ترنماً وليناً؛ نتج عن انخفاض الحنك اللين وخروج الهواء من الأنف، ذلك اللِّين يتفق تماماً مع السياق العاطفي النفسي للآية التي منحت آدم التوبة والنجاة والرحمة، يستشعرها القارئ يداً حنوناً امتدت لتُنقذ أبانا الأول من الجحيم، وتُنقذنا في صلبه إلى يوم القيامة.
كما ينبه الباحث على الجزم والقطع في هذا الوعد الرباني الرحيم، من خلال ذلك الغلق المحكم للشفتين عند أداء الميم الموقوف عليها بالسكون، حيث ينقطع معها الهواء والصوت قاطعاً معه كل شك أو ريبة في وعد الرحمن، على عكس ذلك لو تأخرت كلمة (التواب) -رغم أن المقطع الصوتي متماثل وعلى الرغم من كون الباء شفهية كالميم- إلا أن انتهاء الفاصلة بالباء الساكنة يتنافى تماماً مع النغم الصوتي للآية، كما يؤثر على الأثر النفسي، والظلال السمعية لهذا الصوت؛ فالباء ليس فيها من الترنم واللين ما يتجانس مع نون الفاصلة السابقة،كما أن الباء الساكنة تقلقل، هذه القلقلة تُحدث اضطراباً صوتياً تضطرب معه نفوس السامعين، ذلك الاضطراب لا يتناسب مع السياق العاطفي للآية؛ إذ السياق سياق تطمين ورحمة- والله أعلم-.
في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (القرآن،5: 11) جاء الأمر بالتقوى بصيغة المخاطب مناسباً لقوله اذكروا، ثم جاء الأمر بالتوكل بصيغة الغائب لمناسبة الفاصلة، دلالة على الغلبة، والعموم لوصف الإيمان، والمعنى، لأجل تصديقه بالله ورسوله يؤمر بالتوكل كل مؤمن (أبو حيان الأندلسي، 1999) ، يظهر للباحث من هذا أن الفاصلة مؤثرة في السياق اللغوي للآية حيث تَغَيَّر الضمير بالتفات لطيف من المخاطبين إلى الغائبين، وعدل من سياق نحوي للخطاب إلى سياق آخر للغيبة، فلم يقل- مثلاً- (واتقوا الله وتوكلوا عليه) حيث ستُختم الفاصلة في هذه الحالة بمقطع قصير مشدد cvcc مما يغيب فيه التناسب مع الفاصلة السابقة واللاحقة التي اُختُتم كل منها بمقطع طويل مغلق cvvc؛ هذا الغياب يترتب عليه خلل موسيقي يؤثِّر في بلاغة الكلمات وتناسقها الصوتي، كما أن الواو الممدودة مع النون تُعطي من الترنم ما يزيد الصوت جمالاً وأثراً في نفس السامع، ولا يخفى على باحثٍ ما يوجد من تقاربٍ بين الميم والنون من جهة وبين اللام والنون من جهة أخرى وبينهم جميعاً من جهة ثالثة، فكلهم ينتمي للأصوات البينية، فعلى الرغم من اختلاف الصوت الأخير في فواصل الآيات الثلاثة إلا أنها تطابقت في المقطع، وتجانست في الصوت، فسبحان الحكيم الخبير.
جاء في الدر المصون تعليقاً على قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ (القرآن، 5: 3) أن السبب في تقديم لفظ الجلالة في قوله أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وتأخيره في آية سورة البقرة، أنها في البقرة فاصلة أو تُشْبه الفاصلة، بينما في آية سورة المائدة جاء بعدها معطوفات (السمين الحلبي، د.ت.)، يظهر هنا أن التقديم والتأخير متعلق بالفاصلة أو شبه الفاصلة كما ذكر الحلبي في مقارنته بين آية المائدة السابقة وآية البقرة ﴿وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ (القرآن، 2: 173)
فهي في آية البقرة موضع وقف أي شِبه فاصلة- كما قال- فلو تقدم لفظ الجلالة لكان مقطع الوقف (بِه) cvc قصير مغلق، ولكنه عند الوقف على لفظ الجلالة يكون مقطع الوقف (لاه) مقطع طويل مغلق cvvc، ويلاحظ الباحث أن المقطع القصير المغلق (بِه) cvc حاسر للصوت يتنافى ويتنافر مع النسق الصوتي الموسيقي لمقاطع الفاصلة السابقة واللاحقة، والتي تكونت كلها من مقطع طويل مغلق cvvc يسمح المد الموجود فيه بالتغني والترنم، وإضافة جو نغمي للآيات يُسْهم في الإمتاع والإقناع المصاحب لتدبر القرآن.
في قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ (القرآن، 6: 93)، تقدم الجار والمجرور عَنْ آيَاتِهِ وحقه التأخير بعد الفعل لتعلقه به، وقد علل المفسرون هذا التقديم والتأخير برعاية الفاصلة، فالجملة وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ حال، وقدم عَنْ آيَاتِهِ لتنتهي الفاصلة بالفعل تَسْتَكْبِرُونَ فيتحقق التناسب لصوت الفاصلة (السمين الحلبي. دت)، ويرى الباحث أن التقديم والتأخير أفاد دلالة التخصيص، والإشعار بالأهمية، ولعل الحفاظ على الفاصلة بأثرها الموسيقي لا يقل أهمية عن غرض التخصيص الدلالي، فالفاصلة التي تنتهي بالمقطع الطويل المغلق cvvc الذي يمثل المد فيه أوسطه، والنون آخره، هذه الفاصلة تتطابق مع السوابق واللواحق لتكتمل الصورة الإعجازية في النغم القرآني، الذي يضفي ظلالاً نفسية على السامع تسهم في الدلالة التي ترسلها الآيات؛ فالترنم والمد النات


التناسب الفاصلة القرآن السياق القرآني


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع