مدونة بروفسور دكتور. وائل أحمد خليل صالح الكردي


ديار هاديس.. او السجن وراء الذات في رواية (الهوتة) 2/ 3

أ.د. وائل أحمد خليل صالح الكردي | Prof.Dr. Wail Ahmed Khalil Salih AlKordi


14/12/2024 القراءات: 44  


والسجن وراء القضبان هو أسهل أنواع السجون تحرراً منه بمجرد النطق بحكم البراءة أو انقضاء فترة الحبس أو حتى بالهروب من أسواره. ولكن كيف السبيل إلى الهروب من الذات أو حتى بالاغتراب عنها في ذات جديدة يمسخ بها ذاته الأصل، فهذا لا يكن (ارتدوا ملابس الفرح جميعاً كأنهم أقارب أو أصدقاء حميمون يزفون عريساً وعروساً، فرحون، يغنون، بينما دواخلهم مشبعة بالقلق والتوجس ... أناس فرحون من الخارج، محترقون من الداخل كأنهم ممثلون حقيقيون - الهوتة). والشيء المثير للدهشة والتأمل في تحقق فكرة السجن وراء الذات في (الهوتة) ما توحي به أن القسوة اللاإنسانية المفرطة هي أيضاً حالة من حالات السجن المؤلم وراء الذات المريضة بخلل نفسي أو عقلي ما؛ فالإنسان القاسي يعذب نفسه بقسوته على الناس أو أن قسوته على الأخرين ما هي إلا مظهر لحالة من المعاناة الوجدانية التي يعيشها صاحب القسوة أو أنه عاشها سلفاً (قتلوا المئات بدم بارد، قتلوه أيضاً أمام عيني وقتلوا أباه وأمه، ورموا بهم في مقبرة الخفسة - الهوتة). فكما كانت قسوة قايين في قتل أخيه هابيل قد أورثته ندماً طاغياً، وكما كانت قسوة اللذة السادية التي عايشها ملوك وجماهير روما القديمة وهم ينتشون متعةً برؤية الأسود التي تم تجويعها طويلاً تنهش بعنف لحوم ضحاياها الأحياء المحكومين بالإعدام، وهتافات الجماهير التي تعلوا كلما رأوا مشهد الرعب والذعر الشديد في وجوه هؤلاء المحكومين لحظة انطلاق الأسود الجائعة نحوهم وتعلوا أكثر عندما تشرع الأسود في الأكل منهم قطعة بعد قطعة ليتسرب إليهم الموت الأليم ببطء تحت الصرخات وكأن هؤلاء الجماهير قد أكلوا هم بأنفسهم لحوم هؤلاء الضحايا البشرية وشربوا دمائهم نيئة، وكما كانت قسوة سجن هتلر الجبار وراء ذاته ورجال قواته الخاصة وهم يرمون بغير طرفة عين بستة ملايين يهودي وهم أحياء إلى الأفران العالية لتصهرهم كما تصهر الحديد؛ فهكذا كانت حفرة (الهوتة) أشد وأقسى من مسرح الإعدام الروماني ومن أفران هتلر العالية تجسيداً لقسوة معتقلات رجال الحرب للتعذيب ومعسكرات هتك الإنسانية لدى أبناء (داعش)، ولعل حفرة (الهوتة) هي الأشد قسوة على الإنسان من اسلافها نسبة إلى الإنسان يجري نحوها وهو مغمى العين بظنه أنه الخلاص وأن الحرية تبعد عنه خطوات قلائل فإذا به يواجه الموت المحتم وأن الأوان قد فات للعودة إلى الوراء، فأشد العذاب على النفس حين يبلغ الإنسان ذروة الفرح بالنجاة ثم يصدم بالهلاك فجأة وبغير مقدمات. هكذا صورت رواية (الهوتة) –فيما شهدت به الضحية الناجية بهار- هذه المشاهد وما خلفها من رغبة قصدية لدى القائمين على المعتقل بدفع الضحايا نحو المعاناة والتعذيب النفسي أولاً ثم التعذيب بالسقوط في الموت المحقق ثانياً فيأتي العذاب مضاعفاً لحظة فقدان شعورهم بالأمل في الخلاص بعدما عشموه (عروساً وعريساً غُضب عليهما بسبب اقامتهما العرس) أخرجوهما من الحفلة، وقيل لكل واحد منهما: أركض نحو زوجك، ركضا وواحدهما راح ينادي الآخر، بينما كلاهما وقعا في الحفرة على مرأى من الجميع - الهوتة). وعلى هذا فالمسجون السادي وراء ذاته هو معذب بجحيم وجودي (بالمعنى الفلسفي) بما ينعكس في اجتهاده للخلاص من هذا السجن بالاغتراب عن الفطرة الإنسانية السوية الطيبة من خلال أفعال القسوة ووهم التلذذ بها. بينما المعذب بالسجن وراء القضبان هو في عذاب جسدي يزول بزوال الجسد أو بتر العضو ولا يتعداه إلى الروح والنفس. والعذاب الجسدي كثيراً ما يكون لاهياً عن العذاب النفسي الوجودي وليس العكس، على مثل ما كان عذاب بهار بسجن الدواعش في رواية (الهوتة) لأن سجنها كان وراء القضبان وتعافى جسدها من جراحه بالخروج منه إلا من أثر ندبة في وجهها، بينما ظل حامد بعد خروجه من سجن القضبان بكل ما ذاق فيه من ألوان التعذيب الجسدي، ضحية لسجن آخر وراء ذاته لم يخرج منه، فضحيا الحرب الأبرياء ربما يظل سجنهم وراء ذواتهم مستمراً برغم أنه أهون قسوة من سجن ذوات من صنعوا من الناس ضحايا بجبروتهم، وأن (الظلم ظلمات) هي على الظالم أشد منها على المظلوم، تماماً كما الساحر يلجأ إلى تسخير الجان السفلي ليعقد به (الأعمال) لأجل أن يضر بها أناس معينين، فيكون الساحر نفسه أول المعذبين بهذا التسخير على أيدى هؤلاء الجان أنفسهم. ولمن أراد أن يستشعر التأثير الدرامي لحقيقة (حفرة الهوتة) فكأنما أن وصف الرواية لها تحيل القارئ إلى أصول الفكرة في اسطورة (ديار هاديس) وهي عالم الجحيم الأخروي لدى الأغريق القدماء كما صورته (ضفادع) أرسطوفانيس و(أوديسا) هوميروس و(افيجينيا) يوربيديس وغيرها وكيف انسحب هذا الجحيم الأخروي عندهم ليكون مصدراً لجحيم الدنيا. هكذا كانت حفرة (الهوتة) في واقعها العيني المتجسد، وهكذا هي أيضاً (الهوتة) في دلالتها الرمزية للسجن وراء الذات، فإن (ديار هاديس) على الحقيقة وليس الأسطورة هي السجن وراء الذات بعينه. ولعل خاتمة الرواية دلت على أن جل ما جرى لحامد كان جراء سجنه وراء ذاته بعدما خرج من سجنه وراء القضبان، فلقد ظن أنه ربما بلغ حالة من (الأتراكسيا) أو (النيرفانا) في عشقه الروحاني لبهار، هذا العشق الذي يولد نوعا من (اليوتوبيا) الشعورية في نفس الإنسان في مقابل (ديار هاديس) التي تصنعها في الدنيا المدنية ذات الحرب. ولكن قدر حامد قد بخل عليه إلا أن يستمر سجنه ليكون وراء ذاته حيث ذابت (اليوتوبيا) العشقية بين الثلوج باختفاء بهار لتظهر حقيقة ديار (هاديس) المؤلمة وذلك ما لم تقله الرواية تصريحاً وإنما إيحاءً، فكان الإيحاء أبلغ (رفعت صوتي أكثر.. تعالي إلي يا حبيبتي. أبعدت كميات الثلج عن وجهي، فركت عيني وفتحتها على اتساعهما، لم أكن أرى سوى مدى ابيض فحسب.. فزعت، دق قلبي بقوة، صرخت: بهاااار. كنت وحيداً إلا من صوتي، مجنوناً أركض في الشوارع التي خلت من الناس. أكاد أتجمد، خضت في كتل الثلج التي كبرت أمام خطوي، رحت أصرخ من جديد، خشيت أن يتجمد صوتي فلا أقدر على الصراخ، لهذا كررت ندائي: بهااار، بهاار. ثلج كثيف وضباب أكثف. رحت أخوض بصعوبة فيهما - الهوتة).


هاديس، الهوتة، السجن وراء الذات


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع