مدونة ياسر جابر الجمال


كبرياء التفاهة في بلاد اللامعنى

ياسر جابر الجمال | Yasser gaber elgammal


14/02/2024 القراءات: 473  


هذا العنوان من كلمات أستاذي الكبير/ السيد حافظ - متعه الله بالصحة والعافية -، كتب ذلك في سبعينيات القرن الماضي ولا أدري أهذه نبوءة أم توقع أم حقيقة يعيشها الجميع الآن؟!!!، هذه آفة الأمم التي لا تستشرف المستقبل ولا يكون لها في التاريخ عبرة.
كانت هذه العبارة وتلك المقولة مسار تندر في الأوساط الثقافية والفكرية في تلك الفترة، حتى إن الفنانة "تحية كاريوكا" كانت في إحدى العروض المسرحية، فقالت على خشبة المسرح إنها تكتب (كبرياء التفاهة في بلاد اللامعنى ) أي تتهكم على ذلك.
هذا مهاد تأسيسي لقضية هامة نشاهدها في كل وقت من حولنا، وتُفرَض علينا في كافة الأوقات، ويُرَادُ لها أن تكون نمط حياة.
صناعة التفاهية أو تأسيس أجيال من التفاهين، تسطيح كافة المسائل، وتحويل كل شيء إلى مسار من السخرية والضحك، وعدم الجدية في أي شيء.
إن فكرة الفُكاهة أو الضحك ليست مرفوضة بالكلية، فإن هذا نوع من الكبت والأكتئاب؛ لكن أيضًا ليست التفاهة أو الاستهتار نمط حياة بحال من الأحوال .
تَحوُّل الأجيال الحالية والقادمة إلى مجموعات من التافهين مصيبة ستَطرَح ثمارها المُرَّة في وقتها، قَصُر الزمان أم بَعُد، وحينها ولات حين مناص.
إننا في ظل التقدم التقني الرهيب والتحول في نمط الحياة، بدلا من الاستفادة الجدية والنافعة من ذلك، أصبحت التفاهة هي المسيطرة علينا وتمارس سُلُطاتِها على كل شيء.
إننا عندما ننظر إلى نظام التفاهة نجد أنه " نظام مكين، يضرب جذورَه في تربة المجتمع شيئًا فشيئًا، بشيء من المنهجية والاستقرار المرعبين؛ لقد طالت التفاهة جميع مناحي الحياة بدءًا من أبسط الأمور حتى أعقدها، فنحن اليوم نرى أشخاصا تافهين يتصدرون وسائل التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا، وهم لا يملكون محتوى مفيدًا ولا قيما عليا، أو مبادئ ومُثل كبرى، في حين أنه يتم تجاهل أي محتوى مفيد قيّم و يُعرَض عنه"( ).
ومن ذلك فإنه يمكننا القول أن صناعة التفاهة تعتمد " على المحتوى السطحي والسهل الممتنع، الذي يستهوي الأفراد بسرعة، مثل الأخبار الجديدة عن المشاهير والأحداث العابرة - ما يسمى هاشتاغ -، وذلك بدلاً من تناول المواضيع الحقيقية والهامة التي تؤثر على المجتمعات.
يتم تصميم هذا النوع من المحتوى ليكون قابلاً للانتشار بسرعة ويجذب الجماهير مثل تطبيق التيكتوك، مع تجاهل الأخبار والأحداث الحقيقية التي يمكن أن تساعد على نمو المجتمعات وتطويرها بالشكل السليم.
يؤدي اهتمام الجماهير بالتفاهات إلى تحطيم المجتمعات بطريقة عديدة، فالتركيز المفرط على الأخبار التافهة والأحداث السطحية يؤدي إلى إهمال القضايا الحقيقية التي يجب التركيز عليها، مثل: القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفقر والبطالة، ونتيجة لذلك، يمكن أن تؤدي صناعة التفاهة إلى تقليل الوعي العام والمعرفة المهمة التي يحتاجها المجتمع للتطور والتقدم"( )
إن الكتابات حول التفاهة بدأت منذ فترة طويلة، وأول من كتب في ذلك " آلان دونو" أستاذ العلوم السياسية جامعة كيبيك كندا، وقام بترجمته "مشاعل عبدالعزيز الهاجري"، نشرته دار سؤال - بيروت لبنان 2020م، يقول في كتابه (نظام التفاهة)، ويُعرّف فيه نظام التفاهة بأنه: "النظام الاجتماعي الذي تُسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة عوضاً عن العمل الجاد الملتزم"، من صفاته: تضخم النزعة المادية والاستهلاكية، واعتبار الإنسان مجرد شيء وسلعة بدون كرامة، وسيادة منطق الرأسمالية المتوحشة التي أحالت البشر إلى مجرد آلات مُسخّرة لتحقيق فائض الإنتاج...( )
كما عبر عن تلك الفكرة "ماريو باراغاس"، في كتابه "حضارة الفُرجة"، تحدّث فيه عن صناعة الرموز الرخيصة، وثقافة الاستعراض، وفكر التسطيح، وفن التهريج واللهو، وحلّل فيه الثقافة الاستهلاكية كمنتج للرأسمالية، وانتقد التركيز على التسلية والموضة والجنس والإثارة في الإعلام، وهاجم من يقيّم وجوده ودوره ونجاحه بظهوره في منصات التواصل الاجتماعي وعدد المتابعين والمشاركين والمعجبين. ".( )
إن كلمة (تفاهة) تعني " الانشغال بالتوافه، وهي الصغائر التي لا ترتقي بالإنسان، وتعني التفاهة أيضا: النقص في الأصالة أو الإبداع أو القيمة، وحين يُقال أن فلانا يَشْتَغِلُ بِتَوَافِهِ الأُمُورِ، فهذا يعني أنه منشغل بِمَا لاَ أَهَمِّيَّةَ لَهُ، وقد وصف فلاسفة ومفكرون عالَم اليوم بأنه مسيَّر بآليات (نظام التفاهة)، وهذا عنوان كتاب الفيلسوف الكندي المعاصر "آلالان دونو".( )
وإذا أردنا أن نؤكد بنموذج عملي على نظام التفاهة في تخصص واحد، فتوجد قصة متداولة في الأوساط الثقافية والفنية بين الناقد الكبير "عباس محمود العقاد"، وبين الممثل "محمود شكوكو"، جاء فيها..
" سأل صحفي "ﻋﺒﺎﺱ محمود ﺍﻟﻌﻘﺎﺩ": من منكما أكثر شهرة .. أنت أم "محمود ﺷﻜﻮﻛﻮ"؟! - وشكوكو هو مونولوجيست مصري هزلي شهير، كان يرتدي ثياب المهرجين لإضحاك الناس - ..
فردّ عليه العقاد باﺳﺘﻐﺮﺍﺏ: من ﺷﻜﻮﻛﻮ؟
وعندما وصل خبر هذه المحادثة ﻟﺸﻜﻮﻛﻮ قال للصحفي: أطلب من صاحبك العقاد أن ﻳﻨﺰﻝ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ في القاهرة، ويقف على أحد الأرصفة وسأقف أنا على الرﺻﻴﻒ المقابل .. ثم نرى على من ستجتمع الناس !!
وهنا ردّ العقاد: قولوا ﻟﺸﻜﻮﻛﻮ أن ﻳﻨﺰﻝ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ .. ﻭﻳﻘﻒ ﻋﻠﻰ ﺭﺻﻴﻒ، ويجعل إحدى الراقصات تقف على الرصيف المقابل.. ثم يرى.. على من ستجتمع الناس أﻛثر!"
هذه القصة تلخص بأختصار مسار التصورات في واقعنا منذ فترات طويلة؛ وقال "شكوكو" ذات مرة: "سيرنا باستقامة فشحتنا ثمن السجارة، سيرنا في اللهو والهزل بنينا عمارة".
إن كتاب آلان دونو (نظام التفاهة ) " صُنِّف هذا الكتاب بحسب بعض النقاد في خانة أدبيات "ما بعد الحداثة" كاتجاه فكري يُعنى بنقد مآلات وصيرورة الحداثة الغربية التي استحالت إلى تضخم النزعة المادية والاستهلاكية، بدلا من تحرير الإنسان وصَون كرامته "( ).


كبرياء التفاهة في بلاد اللامعنى


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع