مدونة الدكتور محمد محمود كالو


الأيسر والأحوطيات ، أ. د. محمد محمود كالو

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


25/07/2022 القراءات: 686  


الأيسر والأحوطيات

بعض الناس يتورع عن الأخذ بالرخص، ظنًّا منه أن العزيمة دومًا أحب إلى الله تعالى، وهذا خطأ إذ رغب النبي بالترخص حال المشقة فقال: (إن الله يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه، كما يَكره أن تُؤْتَى معصيته) [رواه أحمد].
وقد كان فقهاء الصحابة أميل إلى الأخذ بالأيسر، والذين جاءوا من بعدهم كانوا أميل إلى الأخذ بالأحوط، وكلما نزلنا من عصر إلى عصر زادت كمية "الأحوطيات"، وكثر الأخذ بالأحوط حتى كونت ما يشبه الإصر والأغلال التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليضعها عن الأمة فقد جاء في وصفه في كتب أهل الكتاب: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
وإنما اختار الصحابة منهج التيسير والتخفيف؛ لأنهم وجدوا هذا هو منهج القرآن الكريم، ومنهج هذا الدين الذي شرع الرخص في المرض والسفر، وأجاز تناول المحرمات عند الضرورة والمخمصة، وأجاز التيمم لمن لم يجد الماء، إلى غير ذلك من أحكام التخفيف؛ ولذا عقب القرآن على أحكام آية الطهارة بقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].
وعقب على آية أحكام الصيام بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وعقب على أحكام النكاح بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].
كما وجد الصحابةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تيسيرًا، وأشدَّهم ضد الغلو والتنطع في الدين، وهو القائل صلوات الله عليه: (هلَكَ المتنطِّعونَ) [رواه مسلم] قالها ثلاثًا، والمتنطِّعونَ: المغالون.
وقال أيضاً: (إيَّاكم والغُلوَّ في الدِّينِ، فإنَّهُ أهْلَكَ من كانَ قبلَكُمُ الغلوُّ في الدِّينِ) [رواه ابن ماجه].
وأنكر على من مال إلى الغلو في عبادته تقليدًا لرهبان النصارى وغيرهم، كما فعل مع عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وكما فعل مع الغلاة الذين قال أحدهم: أنا أصوم فلا أفطر، وقال الثاني: أنا أقوم الليل فلا أنام، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً.
وردَّ على أخيه من الرضاعة عثمان بن مظعون رضي الله عنه حين أراد أن يتبتل، والتبتل: هو الانقطاع للعبادة، وحرمان النفس حتى من المباحات.
وأنكر على معاذ بن جبل إطالة الصلاة بالناس، وقال له: أفتان أنت يا معاذ؟ ثلاثًا. [رواه البخاري].
علماً أن معاذ بن جبل أعلمُ الأمة بالحلالِ والحرامِ..!
وغضب على أبي بن كعب غضبًا شديدًا حين بلغه طول صلاته بالناس، وقال: (إنَّ مِنكُم مُنَفِّرِينَ، فمَن أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ) [رواه البخاري].
علماً أن أبي بن كعب أقرأُ الأمة لِكِتابِ الله تعالى.
وأنكر على بعض الصحابة الذين أفتوا رجلًا أصابته جراحة -وقد أصابته جنابة- أن يغتسل، فمات من ذلك، فقال عليه السلام: (قَتَلوه قَتَلَهمُ اللهُ، ألَا سألوا إذْ لم يَعلَموا؛ فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ، إنَّما كان يَكفيه أنْ يَتيَمَّمَ) [رواه أبو داوود].
من هنا تعلم الصحابة التيسير، وتشربوه من الهدي النبوي الكريم.
وما أجمل قول الإمام سفيان الثوري رضي الله عنه: "إنما الفقه الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد"(رواه أبو نعيم في الحلية (6 / 367)، وهذا القول الجميل لرجل جليل انعقدت له الإمامة في ثلاثة مجالات:
في الفقه، حيث كان له مذهب متبوع لمدة من الزمن.
وفي الحديث، حيث سُمّي "أمير المؤمنين في الحديث".
وفي الورع والزهد، حيث كان من الشيوخ المقتدى بهم في عصره.
كما يحسن بنا أن نذكر هنا ، ما كان يذكره الفقهاء المتأخرون في ترجيح بعض الأقوال على بعض، إذ كانوا يقولون: وهذا القول أرفق بالناس.
وهكذا كما أن هناك فقه التيسير؛ فإن هناك فقه التعسير، إلا أن الأول محمود، وأما الثاني فمنفر ومذموم.


الأيسر، الأحوط، الرخص، العزيمة، التيسير، التخفيف


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع