مدونة عبدالحكيم الأنيس


كلمات وافقتْ قدرًا (1)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


17/02/2024 القراءات: 1351  


هذا موضوع أرجو إذا قرأه قارئ متأمل أن يكون له فيه فائدة، ومن ذلك أن يراعي لسانه في حق نفسه وفي حق الآخرين، فلا يقول إلا حسنًا، ويتفاؤل بالخير دائمًا، وفيه أخبار لا تدخل في هذا، ولكنها وافقتْ قدرًا فذكرتها أيضًا، وفيه ما هو من قبيل التفاؤل الممدوح، أو الكرامة:
قال أبو عمرو الشيباني (ت: 205) يومًا لأصحابه: "لا يتمنّينّ أحد أمنية سوء، فإنّ البلاء موكّلٌ بالمنطق، هذا المؤمل قال:
شفَّ المؤملَ يوم الحيرة النظرُ … ‌ليت ‌المؤملَ لم يُخلقْ له بصرُ
فذهب بصرُه.
وهذا مجنون بني عامر قال:
فلو كنتُ أعمى أخبط الأرض بالعصا … أصمّ ونادتني أجبتُ المناديا
فعميَ وصم" .
***
وقال الحسن بن علي الحلواني: "سألت محمد بن عبيد: ‌أكان ‌لسفيان [الثوري] ‌امرأة؟
قال: نعم، رأيتُ ابنًا له، بعثتْ به أمُّه إليه، فجاء، فجلس بين يديه، فقال سفيان: ليت أني دُعِيتُ لجنازتك.
قلتُ لمحمد: فما لبثَ حتى دفنه؟
قال: نعم" .
***
وقال الحسينُ بن فهم: "قدم علينا محمد بنُ سلام [الجُمحي البصري صاحب "طبقات الشعراء"] سنة اثنتين وعشرين ومئتين فاعتلَّ علة شديدة، فما تخلف عنه أحد، وأهدى له الأجلاء أطباءهم، فكان ابن ماسويه مِن جملة مَن أُهدي إليه، فلما جسَّه ونظر إليه قال له: لا أرى بك من العلة ما أرى بك من الجزع! فقال: والله ما ذاك على الدنيا مع اثنتين وسبعين سنة، ولكن الإنسان في غفلة حتى يوقظ بعلة، فقال ابن ماسويه: لا تجزعْ فقد رأيت في عرقك من الحرارة الغريزية ما إنْ سلمتَ من العوارض بلَّغك عشر سنين.
قال ابنُ فهم: فوافق كلامُه قدرًا، فعاش محمد بن سلام بعد ذلك عشر سنين، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكان ذلك في السنة التي مات فيها الواثق وبويع المتوكل ابن المعتصم" .
***
وأخرج الحاكمُ في "تاريخه" من شعر الإمام البخاري قوله:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون ‌موتك ‌بغتهْ
كم صحيح رأيت من غير سقم ... ذهبت نفسه الصحيحة فلتهْ
قال ابنُ حجر: "وكان من العجائب أنه هو وقع له ذلك، أو قريبًا منه" .
قال ابنُ الملقن: «يروي ورّاق البخاري يقول: سمعت غالبًا بن جبريل وهو الذي نزل عليه ‌البخاري ‌بخرتنك يقول: "إنه أقام أيامًا فمرض، حتى وجه إليه رسول من أهل سمرقند، يلتمسون منه الخروج إليهم، فأجاب وتهيأ للركوب ولبس خفيه، ولما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها إلى الدابة ليركبها وأنا آخذ بعضده قال: أرسلوني فقد ضعفت. فأرسلناه فدعا بدعوات، ثم اضطجع فقضى، ثم سال منه عرقٌ كثيرٌ...» .
***
وقال أبو يعلى محمد بن الحسين: "بلغني أن عبدالعزيز بن جعفر [غلام الخلال صاحب المصنّفات الحسان الكبار] قال في علّته: أنا عندكم إلى يوم الجمعة.
فقيل له: يُعافيك الله.
فقال: سمعتُ أبا بكر الخلال، يقول: سمعتُ أبا بكر المرُّوذي، يقول: عاش أحمد بن حنبل ثمان وسَبعين، ومات يوم الجمعة، ودُفن بعد الصلاة.
وعاش أبو بَكر المُّروذي ثمان وسبعين سنة، ومات يوم الجمعة، ودُفن بعد الصلاة.
وعاش أبو بكر الخَلّال ثمان وسبعين سنة، ومات يوم الجمعة، ودُفن بعد الصلاة.
وأنا عندكم إلى يوم الجمعة، ولي ثمان وسبعون سنة.
فلما كان يوم الجمعة ماتَ، ودُفن بعد الصلاة» .
توفي في شوال سنة ثلاث وستين وثلاث مئة.
***
ومن عجيب سعادة صاعد بن الحسن الرّبعي اللغوي أنه أهدى إلى القائد المنصور بن أبي عامر ‌أيّلًا، - وهو ذكرُ الأوعال- وكتب معه:
يا حرز كلّ مخوّف وأمان ك … لّ مشرّد ومعزّ كلّ مذلّلِ
جدواك إن تخصص به فلأهله … وتعمّ بالإحسان كلّ مؤمّلِ
كالغيث طبّق فاستوى في وبله … شعثُ البلاد مع المراد المبقلِ
الله عونك ما أبرّك للهدى … وأشدّ وقعك في الضّلال المشعلِ
ما إن رأت عيني- وعلمك شاهدي … شروى علائك في معمّ مخولِ
أندى بمقربة كسرحان الغضا … ركضًا وأوغل في مثار القسطلِ
مولاي مؤنس غربتي متخطّفي … من ظفر أيامي ممنّع معقلي
عبد نشلت بضبعه وغرستَه … في نعمة أهدى إليك بأيلِّ
سمّيتُهُ «غرسية» وبعثتُه … في حبله ليُتاح فيه تفاؤلي
فلئن قبلتَ فتلك أسنى نعمة … أسدى بها ذو منحةٍ وتطوّلِ
صبحتك غاديةُ السرور وجلّلت … أرجاء ربعك بالسحاب المخضلِ
فقُضي في سابق علم الله أن غرسية بن شانجة مِن ملوك الروم - وهو أمنعُ مِن النّجم- أُسِرَ في ذلك اليوم بعينه الذى بَعث فيه صاعد بالأيّل، وكان ذلك في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وثلاث مئة .
***
وقال مسعود بن عبدالله التيتاري [كذا] : "رأى المسترشدُ [الخليفة العباسي] في النوم في الأسبوع الذي استُشهدَ فيه كأنَّ على يده حمامة مطوقة، فأتاه آتٍ وقال: خلاصُك في هذا. فلما أصبح حكى لابن سُكينة الإمام ما رآه فقال: ما أولتَهُ يا أمير المؤمنين؟ قال: أولتُه ببيت أبي تمام:
هي الحَمام فإنْ كسرْتَ عيافةً ... مِنْ حائِهنَّ فإنهنَّ حِمامُ
وخلاصي في حِمامي «فيا ليتني تخلَّصتُ من الأَسْر والذُّلِّ والحَجْر عليَّ بالموت» فقُتِلَ بعد أيام!" .
***
وجاء في ترجمة الإمام الحافظ محمد بن الفضل الفراوي (ت: 530):
«قال ابن السمعاني: أذكرُ أنا خرجنا في رمضان سنة ثلاثين وحملنا محفته على رقابنا إلى قبر مسلم بن الحجاج بنصرأباذ لإتمام "الصحيح" عند قبر المصنّف، فبعد أن فرغ القارىء من قراءة الكتاب بكى ودعا وأبكى الحاضرين وقال: لعل هذا الكتاب لا يُقرأ عليَّ بعد هذا.
وكان قوله هذا في شهر رمضان، وما قرىء عليه الكتاب بعد ذلك، بل توفي في شوال ضحوة يوم الخميس الحادي والعشرين من سنة ثلاثين وخمس مئة. ودُفن عند ابن خزيمة» .
***
وجاء في ترجمة أحمد بن محمد التميمي المعروف بابن ورد وكان من بحور العلم بالأندلس (ت: 540):
قال أبو بكر بن إبراهيم بن نجاح الواعظ: دخلنا على أبي القاسم ابن ورد عائدين له في مرضه الذي تُوفي فيه، فسألناه عن حاله فأنشدَ بعدما استندَ لنفسه:
عشر ‌الثمانين وعمر طويل ... لم يبق للصحبة إلا القليل
لا تحسبوني ثاويًا فيكم ... فقد دنا الموتُ وآنَ الرحيل"
ومات في مرضه ذاك.
***
يتبع


عجائب الكلمات


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع