مدونة عبدالحكيم الأنيس


كسرة خبز من الجنة!

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


17/11/2022 القراءات: 1118  


هذه قصة صحيحة لا شك فيها، وخبر غريب لا ريب فيه، عن زوجة أحد الشهداء في القرن الثالث الهجري، ولها نظائر، ولكني أكتفي الآن بها.
قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي البغدادي :
"ظهر في هذه السنة (سنة 230) في بعض قرى (خوارزم) –في تركمانستان- عجبٌ من امرأة رأتْ منامًا، فكانتْ لا تأكلُ ولا تشربُ، وقد ذكر قصتَها أبو عبدالله الحاكم في «تاريخ نيسابور».
أخبرنا زاهر بن طاهر قال: أخبرنا أبو بكر البيهقي، أخبرنا الحاكمُ أبو عبدالله محمد بن عبدالله النيسابوري قال: سمعتُ أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول:
سمعتُ أبا العباس عيسى بنَ محمد المروزي [الطهماني، وكان رئيسًا نبيلًا، إمام أهل اللغة في زمانه، توفي سنة 292] يقول:
وردتُّ في سنة ثمان وثلاثين ومئتين مدينةً مِن مدائن خوارزم تُدعى هزارسف، فأُخبرتُ أنَّ بها امرأة من نساء الشهداء رأتْ رؤيا: كأنها أُطْعمتْ في منامها شيئًا، فهي لا تأكل ولا تشرب منذ عهد عبدالله بن طاهر والي خُراسان، وكان قد تُوفي قبل ذلك بثماني سنين، فمررتُ بها وحدَّثتني حديثَها، فلم أستقص عليها لحداثة سني.
ثم إني عدتُّ إلى خوارزم في آخر سنة اثنتين وخمسين ومئتين، فرأيتُها باقية، ووجدتُّ حديثها شائعًا مستفيضًا، فطلبتًها فوجدتُّها غائبة على عدة فراسخ، فمضيتُ في أثرها، فأدركتُها بين قريتين تمشي مشية قوية وإذا هي امرأةٌ نَصَفٌ، جيدة القامة، حسنة البنية، ظاهرة الدم، متوردة الخدين، فسايرتني وأنا راكبٌ، وعرضتُّ عليها الركوبَ فلم تركبْ.
وحضرَ مجلسي أقوامٌ، فسألتُهم عنها، فأحسنوا القولَ فيها وقالوا: أمرُها عندنا ظاهرٌ، فليس فينا مَنْ يختلفُ فيها.
وذكرَ لي بعضُهم أنهم لم يعثروا منها على كذبٍ ولا حيلةٍ في التلبيس، وأنه قد كان مَن يلي خُوارزم من العُمّال [الحُكّام] يُحضرونها ويُوكلون بها مَنْ يراعيها، فلا يرونها تأكلُ شيئًا ولا تشربُ، ولا يجدون لها أثر غائطٍ ولا بولٍ، فيبرونها ويكسونها.
[ويتابع أبو العباس الطهماني حديثه فيقول:]
فلما تواطأ أهلُ الناحية على تصديقها، سألتُها عن اسمها، فقالت: رحمة بنت إبراهيم.
وذكرتْ أنه كان لها زوجٌ نجّارٌ فقيرٌ يأتيه رزقه يومًا بيوم، وأنها ولدتْ منه عدة أولاد، وأنَّ ملك الترك [الأقطع] عبرَ على النهر إليهم، وقتلَ من المسلمين خلقًا كثيرًا.
قالت: ووُضِعَ زوجي بين يديَّ قتيلًا، فأدركني الجزعُ، وجاء الجيرانُ يُسعدونني على البكاء، وجاء الأطفالُ يطلبون الخبزَ، وليس عندي شيء، فصليتُ وتضرعتُ إلى الله تعالى أسأله الصبر، وأن يجبر بهم، فذهب بي النومُ في سُجودي، فرأيتُ في منامي كأني في أرض خشناء ذات حجارةٍ وشوكٍ، وأنا أهيمُ فيها والهةً حزنًا أطلبُ زوجي، فناداني رجلٌ: إلى أين أيتها الحرة؟
قلت: أطلبُ زوجي.
قال: خذي ذاتَ اليمين.
فأخذتُ ذاتَ اليمين، فوقفتُ على أرضٍ سهلةٍ طيبةِ الثرى، ظاهرة العشب، فإذا قصورٌ وأبنيةٌ لا أحسنُ أصفُها، وإذا أنهارٌ تجري على وجه الأرض من غير أخاديد، وانتهيتُ إلى قومٍ جلوسٍ حلقًا حلقًا، عليهم ثيابٌ خضرٌ، قد علاهم النور، فإذا هم القوم الذين قُتلوا في المعركة يأكلون على موائد بين أيديهم، فجعلتُ أتخلَّلهم وأتصفحُ وجوههم أبغي زوجي، لكنه بصرني فناداني: يا رحمة يا رحمة، فتحققتُ الصوت، فإذا أنا به في مثل حالة مَن رأيتُ من الشهداء، وجهُه مثل القمر ليلة البدر، وهو يأكلُ مع رفقةٍ له قُتلوا يومئذ معه.
فقال لأصحابه: إن هذه البائسةَ جائعةٌ منذ اليوم، أفتأذنون لي أنْ أناولها شيئًا تأكله؟ فأذنوا له، فناولني كسرة خبز، وأنا أعلمُ حينئذ أنه خبز، ولكن لا أدري كأي خبز هو؟! أشد بياضًا من الثلج واللبن، وأحلى من العسل والسكر، وألين من الزبد والسمن، فأكلتُه فلما استقرَّ في معدتي قال: اذهبي، فقد كفاك اللهُ مئونة الطعام والشراب ما بقيتِ في الدنيا.
فانتبهتُ من نومي وأنا شَبْعى ريّا، لا أحتاجُ إلى طعامٍ وشرابٍ، وما ذقتُهُ منذ ذلك اليوم إلى يومي هذا، ولا شيئًا ممّا يأكلهُ الناس.
قال أبو العباس [الطهماني المروزي]: وكنا نأكلُ فتتنحّى، وتأخذُ على أنفها، تزعمُ أنها تتأذى برائحة الطعام.
-فسألتُها: هل تتغذى بشيءٍ غير الخبز، أو تشربُ شيئًا غير الماء؟
فقالتْ: لا.
-فسألتُها هل يخرجُ منها ريحٌ؟
قالتْ: لا.
-أو أذى؟
قالتْ: لا.
-قلتُ: فالحيض؟
أظنُّها قالت: انقطعَ بانقطاع الطُّعم.
-قلتُ: فهل تحتاجين حاجةَ النساء إلى الرجال؟
[قالتْ: أما تستحي مني، تسألني عن مثل هذا؟
قلتُ: إني لعلي أحدِّثُ الناس عنك].
قالتْ: لا.
-قلتُ: فتنامين؟
قالتْ: نعم أطيبَ نوم.
-قلتُ: فما ترين في منامِك؟
قالتْ: ما ترون.
-قلتُ: فهل يُدركك اللغوبُ والإعياءُ إذا مشيتِ؟
قالتْ: نعم.
وذكرتْ لي أنَّ بطنها لاصقة بظهرها، فأمرتُ امرأةً مِن نسائنا فنظرتْ، فإذا بطنُها لاصقةٌ بظهرها، وإذا هي قد اتخذتْ كيسًا فضمَّنته قطنًا وشدَّته على بطنها ليستقيم ظهرُها إذا مشتْ.
فأجرينا ذكرَها لأبي العباس أحمد بن محمد بن طلحة بن طاهر والي خُوارزم، فأنكرَ، وأشخَصَها إليه، ووكَّل أمه بها، فبقيتْ عنده نحوًا مِن شهرين في بيتٍ، فلم يروها تأكلُ ولا تشربُ، ولا رأوا لها أثرَ مَنْ يأكلُ ويشربُ، فكثُرَ تعجُّبُهُ وقال: لا تُنكر لله قدرةٌ، وبرَّها وصرَفها، فلم يأت عليها إلا القليلُ حتى ماتت رحمها الله.
وكانتْ لا تأكلُ شيئًا ممّا يأكله الناسُ البتة، وإذا قرُب الطعامُ تنحتْ ووضعتْ يدَها على أنفها تزعمُ أنّها تتأذى برائحته".
رحم اللهُ رحمة وزوجها الشهيد.


كرامات الصالحين. الرؤى الصادقة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


اللهم أنا نسألك أن ترزقنا الشهادة في سبيلك وتدخلنا جنة الخلد برحمتك .. جزاك الله خيرا شيخنا الكريم ورفع درجاتك في الفردوس الاعلى


بارك الله فيك د. أحمد.