مدونة سعد رفعت سرحت


شدُّ النجوم إلى صمِّ جندلِ...الزمن بعيون شاعر جاهليّ

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


14/07/2022 القراءات: 704  




تبعية الزمان للمكان حقيقة لم يتوصل إليها الفكر البشري بسهولة،إنّ تحديد الزمن ب"مدّة تعدّها الأفلاك" لم يأتِ من فراغ ولم يرتجله الفكر البشري بالصدفة،إنّه نتاج تفكير وتأمّل عميقين،ولهذا كان تحديد الزمن فيزيائيا تقدّمًا بشريا غاية في الرقي،أي حين فهم الإنسان الزمن على أنه كم من الوقت ،أو عدد من الأحيان ،أو امتداد المُدَد بشكل متساوٍ،أو مدّة مرتبطة بحركة الأفلاك.


يؤكد الأنثروبولوجيون أنّ تمثّلات الإنسان للزمن كان مرتبطًا بأحواله النفسيّة،و تصورات الشعوب البدائية عن الزمن لا يخرج عن تحديدات الزمن النفسي،أي ذلك الزمن المرتبط بحركة النفس و شحناته العاطفية،ولم يزل آثار تلك التصورات باقية مترسخة في ذاكرة البشر إلى اليوم،ولهذا تسمعون من يقول :(فلان أطول من يوم السبت) و من يقول: إنّ( الأيام الفلانية سوداء) أو( مرت بلمح البصر) و عن أيام أخرى يقول :(حسبالك يوم المحشر)،فلكلّ نفس زمنها الخاص،زمن يرتبط بانفعالات النفس وهمومها ،إنه زمن سديمي يبدو و يتلاشى الى أن يصعب التعبير عنه بمعزل عن الخرافة،على أن الزمن الفردي(أي الذي يحسه الفرد طبقًا لأحاسيسه) مرتبط بشكل عضوي بالتصورات الجمعية،لأنّ للذاكرة حضورها في تأملات الذات،وبما أنّ الذاكرة دأبًا هي ذاكرة جمعية،فإنّ التمثلات الفردية للزمن إنّما هي تمثلات جمعية بطريقة غو بأخرى.


ومن جانب آخر لا يمكن تصور الزمن بمعزل عن المكان، فعلى الرغم من أن كلا الزمنين النفسي والفيزيائي لم يكن بمقدورهما أنْ يسجلا حضورهما في الذهن البشري ولا على خياله إلّا بوساطة المكان،سواءٌ على المستوى الجمعي أم الفردي،وقد أسهب الأنثروبولوجيون في بسط هذه الحقيقة في مناسبات كثيرة،حتى انتهوا إلى أنّ إيقاع الزمن لا يمكن الإمساك به إلا من خلال الاستعانة بملامح المكان،أو وضعه في حيز مكاني،لأن كلا الاثنين الزمان والمكان كانا متّحدين في أعماق البشرية وارتسمتا في ذاكرتها على صعيد واحد،لكن يبقى رقي الفكر البشري رهنًا بمدى إحكام النظر إلى الزمن بصورة أكثر واقعية بحيث تفصل مفهومه عن الترّهات والفكر الأسطوري،وهكذا يقول النابغة:


كِلِيني لهم يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ
وليلٍ أُقاسِيهِ بطءِ الكَواكِبِ
تَطاوَلَ حتى قُلتُ ليس بِمُنْقَضٍ
وليس الذي يَرعى النجومَ بآيِبِ


انظر كيف يتداخل الزمنان النفسي والواقعي،وكيف يعرضهما الشاعر بواقعيّة، فمع أنّ الشعر تخييل إلّا أنّ الشاعر الجاهلي لم يكن أسير الفكر الأسطوري،بل ترى في كلّ مناسبة حصافة رؤية الشاعر وهو يعرض همومه ومآسيه بصورة محكمة لا تخالف الواقع كثيرا،فقد جعل بطء الكواكب علّة لتطاول الليل .


وحين نأتي إلى امرئ القيس وهو يصف الليل،يفاجئنا بصورة خرافية تشبع قلقه و غنائيته حين يشبهه بموج البحر حينًا و بالمطي حينًا آخر،ولكنه لا يلبث حتى يقول:


فيا لك من ليل كأنّ نجومه
بكلّ مغار الفتل شّدّت بيذبل
كأنّ الثريا علقت من مصامها
بأمراس كتانٍ إلى صمّ جندل


ففي لوحة الليل نلمس أنّه_ إذ يفي لذاتيه فيصوّر الزمن وفقًا لمواجعه فيستسلم لخياله_إلّا أنّه في هذين البيتين لا يلبث يعود للحديث عن الزمن عبر المواضعة المكانية، وهو بهذا يهادن التصورات الجمعية للعرب عن الزمن،إذ يستعين ببلاغة التشبيه ليعبّر عن مقاساته الهموم و المواجع في ليل بهيم لا ينقضي،فيقول إنّ نجوم هذا الليل لا تزول من مكانها ولا تبرح ،وكأنها مشدودة بحبال إلى صخور صلبة،وكذا الثريا كأنّها مشدودة بحبال محكمة الفتل إلى جبل يذبل.

كانت نظرة العرب الى الزمن جليلة،ولهذا تصوره وفق رؤية عظيمة ملؤها الإكبار،كان الزمن في نظرهم مطلقًأ لا يمكن تحديده أو إقرانه بأشياء زائلة،ولعلّ ربط النجوم بيذبل،وربط الثريا بصم جندلِ يؤكدان هذه الحقيقة،ولا سيّما أنّ للجندلِ حضورا أسطوريا في شعر امرئ القيس،فهو من رموز القوة والتأكيد حين يشبه به فرسه،وإذا كان ذلك فإنّ الزمن هو المطلق الذي لا يمكن تقييده إلّا بما هو قويّ جليل كالجبل أو الجندل،وهيهات لهم ذلك.


إنّ حركيّة الصورة الشعرية وجماليتها قاربت كلا مفهومي الزمن ودمجتهما،ففي الوقت الذي كان فيه امرؤ القيس وفيًّا لوجدانه يريد بهذه الصورة إشباع غنائيته،كان في الوقت ذاته شديد الوفاء والمرجعية للتصورات الجمعية،فتواشج الزمان والمكان كان راسخًا في المنظومة العقلية العربية على ما تؤكد ذلك الشواهد الأدبية،و الأهم من ذلك هو أنّ التصور الجاهلي للزمن كان على درجة من الرقي والتقدّم،وفضلا عن كلّ ذلك ما زال الشعر الجاهلي مثالًا ساميًا لاندماج الجمالي بالجمعيّ،وهذا هو سرّ خلوده.




شد النجوم إلى صم جندل،الزمن في الشعر الجاهلي


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع