مدونة سعد رفعت سرحت


أنثروبولوجيا أبناء الثقافة أنفسِهم

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


07/12/2022 القراءات: 613  




ظلت الثقافة الأوربية تمثّل الآخر جاهدة وفق مخيّلتها الاستحواذية،ولم تفسح المجال لكي يعبّر هذا الآخر عن ذاته.والحقّ أنّ تمثيل الآخر يضرب بجذوره في عمق التاريخ البشري،فالمسيطر دأبًا يُخضع الآخر لرغبته و يؤطره بحدوده فلا يخرج عنها،والنظرية الأنثروبولوجية منذ بواكيرها حتى اليوم كانت تعبّر عن هذه الرغبة.


إنّ الطريقة المثلى في البحث الأنثروبولوجي هي النزول في الميدان و معاينة الظواهر الاجتماعية عبر المشاركة،أي محاولة قراءة الثقافة _كما يقول غيرتز_من على أكتاف حامليها و حسب وجهة نظرهم هم لا حسب قارئها ولا حسب خارطة طريق معدّة مسبقًا يحملها القارئ.


غير أنّ البحث الأنثرولوجي يستوعب ضروبا من المقاربات ولا يتوقف على الملاحظة بالمشاركة،فقراءة الثقافات"عن بُعد" كانت_وما تزال_ متسيدة على الخطاب الأنثروبولوجي، وما ينفكّ النقاد يدينون الخطاب الثقافي الذي دشّنه أصحاب المقاعد الوثيرة عن الآخرين غير الأوربيين،لاعتمادهم الكامل على كتابات الآخرين كالرحالة والمبشرين،وإلى هذا واجهت قراءة جيمس فريزر للثقافات البشرية الكثير من النقد،نظرًا لافتقارها إلى ركيزة أساسية في البحث الثقافي،ألا وهي عدم النزول في الميدان،فقد اعتمد خطاب فريز بكليته على كتب الأنثروبولوجيين السابقين و آثار الرحالة والمبشرين والهواة متكئًا في ذلك على النظريات التي أسست لمركزية الغرب،ونظرت إلى الآخر باختزالية و دونيّة،وبهذا عُدّ فريزر أحد أبرز قرّاء الثقافة عن بُعد،حتى أن أحد الباحثين سماه ب(فأر المكتبات) .


إنّ محاولة الأوربيين احتكار الممارسة الأنثروبولوجية و الإصرار على رؤية الآخر وفق نماذج معدّة مسبقا، أدّت إلى بروز اتجاه جديد في البحث الأنثروبولوجي يؤكد على ضرورة قيام أبناء الثقافة أنفسهم بدراسة مجتمعاتهم،بدلا من أن يقوم الغرباء بدراسته،لأن أبناء البلد الأصليين هم أولى و أدرى بثقافتهم من غيرهم،و قد واجه هذا الاتجاه موقفين:موقف مؤيد و موقف معارض:


أمّا المؤيدون فيرون أنّ الباحثين من أبناء البلد لهم الأولية في دراسة ثقافتهم على الغرباء عنها ،و حسب قول العرب :(مكة أدرى بشعابها) و أيضا لأن الغرباء ليسوا ملمّين بأنماط الثقافة و خصوصياتها ،فضلًا عن كون الباحثين الغرباء لا تكون دراساتهم بريئة من الأهواء و النوايا و الأغراض، لاسيما الباحثين الغربيين الذين يدرسون ثقافات غير أوربية و يفرضون عليها مقاييس و توجهات غريبة عنها.


أمّا المعارضون فعلى العكس  يرون أن الباحث غير المنتمي إلى الثقافة أولى بدراستها من أبناء البلد الأصليين ،لأن أبناء البلد يتعاطفون مع ثقافتهم فيبتعدون عن الأمانة العلمية و الموضوعية،و ذلك أنهم يتحدثون عن المحاسن و الفضائل و يقضون النظر عن المساوئ و نقاط الضعف.



والقراءة الأنثروبولوجية سواء كانت في الميدان أم كانت عن بُعد ،وسواء كان قارئ الثقافة من حامليها أم من خارجها ،لا تثبت صلاحيتها و لا جدواها إلّا بمقدار موضوعيتها وحصافتها،بغضّ النظر عن قارئها أ كان من حاملي الثقافة أم كان دخيلًا عليها،إن توخي الدقة و الموضوعية هو الفيصل في البحث العلمي الناجح ،وتبقى الأمانة العلمية هي محك الرفض و القبول.


ومع ذلك بقي سؤالٌ يفرض نفسه بشأن أبناء الثقافة الأصليين:هل يستطيع أبناء البلد أنْ يمثّلوا أنفسهم مقتدرين من قراءة ثقافتهم؟.

الذي يبدو أنّ ابن الثقافة لكي يقرأ ثقافته تعوزه قدرتان: الأولى هي القدرة التقنية على القراءة،إذ ينبغي أن يتسلح بلغة علمية و نظرة ثقافية ثاقبة. أمّأ القدرة الثانية فهي القدرة على أن يتمثّل دور الدخيل لكي يستطيع قراءة ثقافته،وهذا يقضي بأنْ يتناسى أشياء كثيرة تتعلق بكينونته،ومن شأن ذلك أيضا أن يصدمه بأبناء الثقافة.


                                      


أنثروبولوجيا أبناء الثقافة أنفسهم


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع