مدونة محمد كريم الساعدي


الفنان ومخيال المدوّن في التجربة الجمالية الإغريقية / الجزء الثاني

أ.د محمد كريم الساعدي | Mohamad kareem Alsaadi


25/02/2022 القراءات: 572  


إنَّ النقطة الرئيسة في كون (هوميروس) الأب الروحي الذي صنع البطل المخلّص خلافاً لغيره من الشعراء الذين وضعوا قصص البطولة الإغريقية ، تعود الى كونه أستلهم النموذج المخلّص الذي يعبر عن روح الأمة آنذاك ، وعن أبطال لهم امتدادهم التاريخي في ذاكرة الأمة ، فالتاريخ الاغريقي القديم يتوفر فيه العديد من الأحداث حالة حال التواريخ لدى الأمم السابقة ، ولكن (هوميروس) يتميز عن غيره في أختيار نوعية البطل والبطولة التي يقوم بها ، هذا ما يخبرنا عنه الفيلسوف الالماني (نيتشه) الذي انتج مفهوم الرجل السوبرمان ، والذي يرى في المفاضلة بين (هوميروس) و(إرخليوكس) في أن الأول صاحب رؤية موضوعية ، والثاني صاحب رؤية ذاتية ، لذلك يعتقد (نيتشه) بأن "هومر ،ذلك المعمر ، والحالم الذي استهلك ذاته ، النموذج الأصيل للفنان (الأبولي) العفوي . يبدو وهو مندهشاً وهو ينظر الى الرأس الرائع لآلهة الفن (الميوزات) المخلّصة التي تتقلد الدروع الحربية وهي تبعث بقوة في الحيلة ، ولم يستطع الجمالي الجديد أن يسهم بما هو أكثر من القول أن الفنان (الموضوعي) الأول يقف في مواجهة الفنان (الذاتي) الأول . لكن هذا التفسير قلما يساعدنا لأننا نعلم أن الفنان الذاتي فنان بائس. ونحن نطالب بالدرجة الأولى عبر تاريخ الفن كله ، قهر الذاتي ، بالتحرر من الذات وإسكات إرادة الفرد ورغباته ، وبالفعل ، من المستحيل علينا أن نتصور إنتاجاً فنياً صادقاً مهماً كان شأنه صغيراً ، يخلو من الجانب الموضوعي " (3). و(هوميروس) يعد في نظر (نيتشه) الفنان والنموذج الاصيل للقوة التي تظهرها (الميوزات) المخلّصة التي تتقلد الدروع الحربية . والنموذج الذي أنتج (أخيل) في (الإلياذة) وواحد من المساهمين في إنتاج الهوية الجمالية من حيث إنتاج رغبة مهمة في صنع البطل المخلّص في هذه التجربة في تاريخ الفكر الغربي .
إنَّ استلهام التجربة التاريخية لا تأتي من نموذج سلبي ذاتي لا يعبر عن روح اللأمة ومخيالها الذي يجسده الفنان الموضوعي ،و(إرخليوكس) لم يكن بمستوى الروح الغربية المطلقة التي ابتدعت أورع نتاجاتها المعرفية في عهدها الرومانسي ، وكما يرى (هيغل) بإنتاج بطل مخلّص في ملحمة انتصار التمركز في الذات الجمالية على الآخر الذي أراد أن يغير المعادلة ، وما يريده (هوميروس) في فكره المتوقد في إنتاج تجربة ذات بعد تاريخي من الممكن أن تتطور في المستقبل وتصبح تجربة رائدة في تأسيس هوية بطولية منطلقة من جانب ملحمي من خلال إرث يحتوي ذرات هذه التجربة من عمق التاريخ . فالفكر الإغريقي يبحث في هذا الاتجاه الذي وفر له ذرات صناعته المتماسكة شخصيات لها صورة البطل في هذا التاريخ ومنهم ما أوجده (هوميروس) في شخصية (آخيل) ، ومن هذه التوجهات المعرفية بالتاريخ وخباياه أخذ " التمركز موقعه ، حيث يمكن اعتباره تكثيف مجموعة من الرؤى في مجال شعري محدد ، يؤدي الى تشكيل كتلة متجانسة من التصورات المتصلة التي تنتج الذات المفكرة ومعطياتها الثقافية ، على أنها الافضل استناداً الى معنى محدد للهوية ، قوامه الثبات والديمومة والتطابق ، بحيث تكون الذات هي المرجعية الفاعلة في أي فعل ، سواء باستكشاف أبعاد نفسها ، أو بمعرفة الآخر "(4) الذي يظهر في الصور الثلاث التي رسمت له في الذات المفكرة ، فتبات الصورة وديمومة الفكر وتطابق المعنى من جعل هذه الذات المفكرة تستلم قيمها من التاريخ المعبر عن الروح البطلة في رسم الثبات للتفوق التاريخي ، وذلك لأن التجربة التاريخية بمدلولاتها المتقصدة وبفاعليتها واستمرارية أهدافها انتجت فكرة التمركز الجمالي من ثنايا اللحظات الأولى للحدث الملحمي الذي أعطى حرية التفوق على الآخر . فـ(هوميروس) من هذه الدعائم التي اسست لهذا الثبات وصورة البطل المخلّص ، لقد دمت تجربة الثبات بتكرار صورة هذه التجربة على وفق سياقات ثقافية أصبحت المصدر لصورة التمركز في اللوغوس الغربي وامتداداته الأفقية والعمودية على مر التجربة التاريخية ومخيال الفنان في التجربة وأحداثه لصناعة البطل وابتكاراته لمميزاته اعطى الدعم المتلاحق لظهور الهوية التاريخية والتي دعمها في كل حالات ظهورها صورة البطل الهوميري المخلّص.

الهوامش
1. ول وايريل ديورانت : قصة الحضارة / حياة اليونان ، ترجمة : محمد بدران ، بيروت : دار الجيل للطباعة والنشر والتوزيع ، ب، ت ،ص380.
2. ميخائيل تانر : مقدمة الترجمة الى الانكليزية لكتاب فريدريك نيتشه : مولد التراجيديا ، ترجمة شاهر حسن عبيد ، اللاذقية : دار الحوار ، ب، ت ، ص 22.
3. فريدريك نيتشه : مولد التراجيديا ، ترجمة شاهر حسن عبيد ، اللاذقية : دار الحوار ،ص 104 ،ص105.
4. منير مهادي : نقد التمركز وفكرة الأختلاف ، مقاربة في مشروع عبدالله إبراهيم ، الجزائر : ابن النديم للنشر والتوزيع ، 2013، ص35.


الجمال ، الاغريق ، الفلسفة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع