السوق اللغوية عند بورديو(الشغب التداولي(
سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat
20/07/2023 القراءات: 1730
يقول بورديو:((كلّ موقف لغويّ يعمل بوصفهِ "سوقًا" يضع المتكلم فيها منتجاته،ويعتمد المُنْتَجُ الذي ينتجه لهذه السوق على ما يتوقعه من أسعار.....))[ينظر:أسئلة علم الاجتماع:١١٦]
إنّ سحب المفاهيم الاقتصادية إلى مجالات وأنظمة ثقافية أخرى ليس بالأمر الجديد لدى قرّاء( بيار بورديو )ولعلّ مصطلحه الشهير(رأس المال الرمزي)يفي بما نحن في صدد توضيحه.
وذلك أنّ كلّ مظاهر الثقافة ما هي إلّا شكلٌ من أشكال السوق يتعامل بها الناس:يتقابضون فيما بينهم،يفاوضُ بعضهم بعضًا، يزايد أحدهم الآخر،أو يضع أحدهم الآخر في مناقصة.
فالعلاقات الاجتماعية والاتصالات الثقافية ليستا مجرد علاقات و تواصل بسيط، بل هما ايضا علاقات اقتصادية بالدرجة الأساس،فبها ينال أناس قيمتهم و يستغني آخرون عن قيمتهم. وعلى هذا ينبغي أنْ نألف المفاهيم الاقتصادية في لغة بورديو وهو يقارب أنظمة و ظواهر غير اقتصادية.
في مجال اللغة لم تعد مفاهيم (الإنتاج وإعادة الانتاج والمبادلة والمال و الأرباح ...إلخ) مفاهيم غريبة،فكما تجد في السوق الاقتصادية احتكارات وعلاقات قوى موضوعية تجعل كل المنتجين وكلّ المنتجات لا تساوى ،كذلك الحال في السوق اللغوية فثمة علاقات قوة و قوانينُ تكوينِ للأثمان تفرض ألّا يكون المنتجون و أقوالهم متساوين.
يؤسس بورديو لمفهومه(السوق اللغوية)عبر مفهوم (القدرة اللغوية)لدى شومسكي،فالقدرة عند شومسكي تقابل(الأداء الفعلي)،وهو يعني بالقدرة مواهب المتكلم/المستمع وامكاناته في صياغة عدد غير متناه من الجمل الصحيحة و مواهب تؤهله لتقبّلها،فضلًا عن إمكاناته في تمييز الجمل الصحيحة من السقيمة،أمّا بورديو فيرى أن(القدرة)من دون سوق تصير بلا قيمة،أي تقصر عن أن تكون رأس مال لغوي،فالكلام الذي أتلفظ به في موقف ما إنّما هو محصلة مقدرتي على الكلام بما يتوافق مع السوق التي أصرف فيها بضاعتي (=كلامي).
وعند هذا يقدم بورديو لتوضيح فكرته هذه المعادلة البسيطة:
(تطبع لغوي+سوق لغوية=تعبير لغوي أو الخطاب)
والمقصود بالتطبّع تنمية القدرة على الكلام وتمييز صحيحه من سقيمه بما يتوافق مع السوق اللغوية،فالأفراد منذ الصغر يتطبّعون على المقبول والمستحسن في كل مقام،وقد أشار بورديو إلى إلحاح السوفسطائيين على ضرورة عدم الاكتفاء بتعليم الكلام،بل تعليم الكلام و وضعه موضعه الصحيح(وهذا على مقربة مما ورد في صحيفة بشر بن المعتمر ).
فمن متطلبات هذه السوق أن أتكلّم وفق شروطها لكي يلقى كلامي تقديرًا ممن أعاملهم،فمواقف الكلام عبارة عن أسواق تجري فيها مبادلة كلمات،غير أنّ هذه الكلمات لم تُنتج لكي تُفهم فحسب،بل بالأحرى لكي تُثمّن ،وبناءً على هذا فنحن لا نتعلم اللغة دون أن نتعلم شروط قبولها في السوق اللغوية، فالقضية ليست تواصلية محضة،بل تواصلية اقتصادية يترتب عليها تقدير قيمة،و تتحكم بها شروط قبول ورفض وفق علاقات قوة واستحواذ وسيطرة لها أدواتها الخاصة التي تُحكِم الرقابة على الأقوال التي لا تتوافق مع الموقف،وهذا ما يدعو إلى إحلال مفهوم(رأس المال اللغوي)محل(القدرة) عند الحديث عن اللغة و سبل تعلمها وكيفية استعمالها والمتاجرة بها.
يرى بورديو أن قضية(دواعي القبول) ما تزال لغزًا في الدراسات اللغوية الاجتماعية،إذ لم تأخذ حقها بعد،والحقّ أنّ (دواعي القبول) قد لقيت عناية كبيرة في التراث العربي فهي قريبة جدًا من مفهومي(الأمر الداعي و الاعتبار المناسب) فضلا عن أنّ أشياء كثيرة عند بورديو تذكرك بأمور احتوتها صحيفة بشر بن المعتمر،غير أنّ بورديو يقوم بتفعيلها في نقد المجتمع و مؤسساته،وذهب بها بعيدًا نحو تعرية الأنظمة،لاسيما البرجوازية، وفضح ما فيها من زيف.
إنّ بورديو مشاغب كبير يمارس شغبه في تحليل الأنظمة الاجتماعية ونقدها،و يضرب أمثلة كثيرة لتأكيد زعمه،فمن ذلك نقده ل( لغة التعليم أو السوق المدرسية_تغليب الشفاهية على الكتابة_الرقابة التي يمارسها اللغوي على الألسنة_ الصراع السياسي والقومي _المزايدة على اللهجة المحلية المتميزة_ لغة الأحياء الراقية والاحياء المهمشة_الصراع الناشب بين الناطقين بالفرنسية والناطقين بالعربية.....إلخ)
فمن جميع هذه الأمثلة ينتهي بورديو إلى أنّ كلّ التفاعلات اللغوية إنما هي أسواق صغرى تظل خاضعة لسيطرة البنى الكليّة التي تُرَسْمِل اللغة وتتسلط على آليات تكوين الأرباح فيها.
أكتفي بمثالٍ واحد من أمثلته:
في المجتمع الفرنسي_وهو مجتمع طبقي فجّ_ ينبغي أن تعكس اللغة مكانة المتكلم _والمخاطَب_فالذي يتميّز بالوجاهة أو الذي أوتيَ قدرًا معينا من السلطة((بمجرد أن يتكلّم يتلقى ربحًا لغويًّا))لأنّ طبيعة لغته تقول أنّه مؤهل (مفوّض) للكلام بصرف النظر عمّا إذا كان كلامه يحقّق الوظيفة الاتصاليةأم لا،فقد يكون كلامه فارغًا أو غير مفهوم، أو غير صحيح على نطاق واسع،إلّا أنّ المعوّل عليه في السوق اللغوية أمور غير لغوية،مثل:"مكانة المتكلم"و"انتماؤه" و"نغمة صوته" و"سمته"و"تكوينه الجسماني"و"ثقته الفلطونية بنفسه" إذ يتيح له كل ذلك الموقف الاجتماعي المناسب الذي يهيّء له وضعًا رسميًّا طقسيًّا يضمن له التقدير و يؤمِّن له أرباحَ منتجه الكلامي السخيف.
إن الاتصال اللغوي ليس لغويًّا فحسب،بل الجانب الكبير منها تتعلق بالسلطة وبالشروط الاجتماعية وبمكانة من يتكلم و بمكانة من يتكلم معه،فالأمر الجوهري في الاتصال ليس الاتصال بذاته،بل ما يحفّه من اعتبارات و شروط مضمرة،وهنا يدعو يركز بورديو في نجاعة انضمام اللغويات إلى علم الاجتماع،والهمّ الملقاة على كاهل اللغوي ليس البحث في المقدر اللغوي،بل استجواب تلك الاعتبارات والشروط المضمرة،وتفسير "الافتراضات المسبقة" للاتصال،والتساؤل عمّا ينبغي أن يكون عليه الموقف الكلامي،بدلًا من المراوحة بين(ما ينبغي أن يكون عليه الكلام)وبين(ما هو كائن في الكلام)،فالأولى بالعناية والنظر هو "مواقف الكلام" لا الكلام ذاته.
رأسمال لغوي_السوق اللغوية _التداولية بورديو
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع