مدونة سعد رفعت سرحت


اجتماعيّة اللغة العربية(عن شجاعة العربيّة و أهلِها)

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


11/12/2022 القراءات: 1156  


إنّ اللغة نظام،و لعلّ أدقّ تعريف ننتقيه للنظام_لكي ينسجم مع ما نحن بصدده_ تعريف تالكوت بارسونز الذي يرى في النظام مجموعة من الأدوار الثابتة القائمة على تبادل التوقّعات بالاستاد إلى معايير وقيم مشتركة بين أفراد المجتمع،ففي مخزون كلّ فرد مجموعة من التوقعات التي تتناسب مع ردود الفعل لدى الآخرين.


غير أنّ النظم الاجتماعية_وبالأخص منها اللغة_قابلة للانتهاك والتغاضي عن التوقعات المحددة والمتفق عليها عُرفًا وعادةً،ومن هنا تتّجه الدراسة الاجتماعية واللغوية من"النظام" صوب "الفعل" وهكذا ففي اللغة حين يصادفنا خرق أو انزياح تعبيري سرعان ما ننتقل من الحديث عن المعيار أو القاعدة التي تضبط الملفوظ إلى الحديث عن الأسلوب أو الدواعي التي أدت إلى إحداث قطيعة في بنية الملفوظ.


وبالاستناد إلى ذلك لا يتوقف مفهوم التلقّي،فحسب،على "تصور المرسلة الكلاميّة وإدراكه لدى المخاطب"،فهذا التحديد قاصر عن استيعاب إمكانات اللغة،لأنّ في اللغة إمكانات مزدوجة قائمة على المشاركة التي تعني_باختصار_ الثقة المتبادلة بين كلا طرفي الحوار (=المتخاطبينِ) و ضرورة أخذِ كلٍّ منهما دور الآخر،وبعبارة أخرى:لكي يفهم كلا طرفي الحوار بعضهما وينجحا في تدشين خطاب ناجع،ينبغي على كلا الطرفين وضع أنفسهما مكان الآخر،فالمتكلم هو مستمع في الوقت ذاته،و إلّا فثمّة خاصية اجتماعية للذات حتى في أشدّ حالات العزوف والعزلة،و لعلّ هذه الخاصية سمة من أروع سمات العربية.


يراد بشجاعة العربية جرأة المتكلم على الانزياح عن نظام اللغة بإقدامه على التففن و صرف الألفاظ و التراكيب عن وجوهها بكل ثقة و شجاعة، غير أنّ هذه الثقة لا تقف على المتحدّث وحده ولا حتّى على سعة اللغة،بل تقف بالضرورة على ثقة المخاطب وامكاناته ،و هكذا عبر علماؤنا عن جرأة المتكلم و ثقته بنفسه عند الكلام ب(شجاعة العربية ) تشبيها بالفارس المقدام الذي يُقبل على الخطر بكل ثقة و من دون أدنى ارتباك.وذلك أنّ التوسّع في ممكنات اللغة و تصريف الكلام عن وجهه والتفنن في إلقائه خاضع لا محالة إلى مدى استعداد الآخر و إمكان تقبّله،أي شريطة أنْ يأمنَ المتكلم سلامة مرسلته وعدم إحداث حاجز نفسي أو اجتماعي بينه وبين شريكه،كأنْ يرتطم بعائق دلالي أو تداولي يدخل ملفوظه في حيّز المخالفة أو عدم التلاؤم.



ومن البلاغيين من يقلص مفهوم شجاعة العربية بأسلوب (الالتفات) الذي يعني- باختصار- الانحراف عن مطابقة الضمير لمرجعه،كقوله تعالى:(حتى إذا كنتم في الفلك و جرين بهم) إذ تلحظ أن الضمير في الفعل (كنتم ) للحاضرين و في( بهم) للغائبين ،على الرغم من أنهما كنايتان عن مرجع واحد(=راكبي الفلك) ،و في ذلك انتهاك لنمطية المطابقة في الضمائر ،إذ تلحظ انتقالا من الحضور إلى الغياب.


والحقّ أنَ(شجاعة العربية )مفهوم واسع يستغرق أساليب لغوية كثيرة و لا يمكن تقليصها بأسلوب الالتفات،إذ يحتضن هذا المفهوم كلّ أساليب الحذف والزيادة والتقديم والتأخير والاحاجي والألغاز و التورية وإلى غير ذلك من الأساليب والفنون التي تحرّك همم المخاطب للتفتيش عن المعنى، لمعرفته أنّ الكلام قد صُرِف عن وجهه .


إن انزياح المتكلم عن نمطية اللغة ب(الزيادة و الحذف و التقديم و التأخير و انتهاك ...إلخ)،إنما هو شجاعة لا يؤتاها كل الناس على السواء،لأن مدار هذه الشجاعة على ثقة المتكلم بنفسه و قدرته و استعداده على التفنن من جهة،وعلى إمكان أخذه دور المخاطب وتمثّل حاله من جهة أخرى،فكلّما ازدادت الثقة بين المتحاورينِ كان الكلام أقدر على التفنن و أطوع للتوسع.


نستطيع من خلال"شجاعة العربية"أن نصل إلى دلالة ثقافيّة سارّة كانت سمة أصيلة في العرب،فنحنُ حين نعاين شجاعة العربية عبر هذه الأساليب و الفنون في متون التراث،نلحظ أنّ العرب كانت أمة تحفل بأخلاقيات التواصل و تؤمن بالحوار و التعايش،فشجاعة العربية شجاعتان:شجاعة اللغة بالنظر إلى ما فيها من سعة وليونة،و شجاعة ناطقي اللغة نظرًا لما كان بين أفراد الأمة من ثقة و اطمئنان واحترام ،فقد كان العربي يوسّع من إمكانات اللغة عبر اتّساعه في القول بثقة وأريحية، وهو على يقين و إيمان بشركائه،ولنا أنْ نقارن حال العرب أمس بحالها اليوم،فقد أخذت أخلاقيات التواصل اليوم تنعدم ،وأخذت الذاتية تطغى على اللغة،إذ لم يعد الإنسان_بلْهَ انعدام معرفته بأساليب العرب في القول_ لم يعد يحفل بروح المشاركة ولا يقيم وزنًا للحوار في المحافل و مضامير البحث العلمي.ويكأنّ اللغة أصبحت في معزل عن حامليها،فلا هذا يبادر ولا الآخر يستجيب،فالأول محتكر استحواذي معدوم الثقة و الآخر يبادله انعدام الثقة أيضًا.


عربيّة اليوم ليست شُجاعة إلّا في أضيق الحدود، فهل اللسان العربي المبين تبدّل؟.هل أصبحت العربية لغة أخرى؟


لا بكلّ تأكيد ،كلّ ما هنالك أنّنا قصّرنا في حقها من جانب،ومن جانب آخر أصبحت هذه اللغة وتعاطيها حكرًا على فئة تجيد رفع العقيرة في أشد حالات السلامة!حتى غدتْ لغة مبارزة وإفحام و تشاتم بدلًا من أنْ تكون لغة تشارك،يكفي أنّك لا تستطيع التحدث بها إنْ لم تجد خصمًا تبارزه(ولو تخييلًا).


شجاعة العربية _اجتماعية اللغة العربية_اخلاقيات التواصل


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


شكرا لمعد تلك الورقة الثمينة حيد تعد موضوعا حيوىا ابرز فيه البروفسور اسهامات ابن جني الدقيقة وابرز شجاعة العربية واقتدارها على التفنن في التراكيب وفق معهودها