مدونة د. جميل مثنى الحبري


الحِكَمُ والأمثالُ وفاعليُّتها في توجيهِ الذّات -1-

د. جميل مثنى الحبري | Jameel Alhipary


19/03/2022 القراءات: 576  





لا ريبَ في أنّ لأساليب التنميةِ البشريّة وطرائقها فوائدَ جمّة متنوّعة في تطويرِ (الذات)، وتحفيزها وتشجيعها، وتنمية قدراتها. ومن تلك الآلياتِ والوسائلِ، الحِكَمُ والأمثالُ والأقاويلُ الشعبيّة، والمقولاتُ والعباراتُ المسكوكةIdioms المتداولةُ على ألسنة الناس، المحفوظة في ذاكرتهم التاريخيّة والثقافيّة جيلًا بعد جيل لا سيّما لدى متوسطي العمر وكبار السن، بوصفها كانت تمثّل خطابًا إشهاريًا أشبه أو بمثابة إحدى منصّات الإعلام اليومية. وقد أجاد أبو تمام في تصويره إعلاميّة (المَثَل)، وآليّته في الإشهار والترويج في قصيدته الخماسيّة الأبيات(1):
ما أَنتَ إِلّا المَثَلُ السائِرُ يَعرِفُهُ الجاهِلُ وَالخابِرُ
فاكِهَةٌ ضُيِّعَ بُستانُها فَاِنتابَها الوارِدُ وَالصادِرُ
يا ساحِرَ اللَفظِ عَلى أَنَّ مَن أَغراكَ بِاللَفظِ هُوَ الساحِرُ
ذِئبُ فَلاةٍ كَيدُهُ دارِعٌ صادَفَ ظَبيًا كَيدُهُ حاسِرُ
إِذا تَذَكَّرتُكَ ذَكَّرتَني قَد ذَلَّ مَن لَيسَ لَهُ ناصِرُ
وتختلفُ مضامينُ الحِكَم والأمثال من مجتمعٍ إلى آخر في الصياغة والدوالّ اللفظيّة، لكنّها غالبًا ما تتّفق في المقاصدِ والمدلولات. ذلك أنّها تختزلُ تجاربَ السابقين وخبراتِهم وفلسفتِهم إزاءَ الحياة والواقع المعيش؛ فقد تتضمّنُ كلمةٌ واحدة أو كلمتان أو ثلاثُ مكتنزةً ما يُلهم تجربةً أو تجارب عن صوت الحياة وضجيجها وأصدائها. وممّن اشتُهروا بالأقاويلِ الحكيمة والوصايا التجريبيّة في اليمن: علي بن زايد، والحُميد بن منصور، وحزام بن مرشد الشبثي. لذا ينبغي الاهتمامُ والاعتناء بها، بالجمع والتدوين والثوثيق والدراسة والتحليل، وتعليمها للنشء، وتضمينها في المناهج المدرسية والجامعية، وعدم إهمالها والتغاضي عنها، كي تترسّخ في أذهانهم، وتتجلّى في ممارساتهم؛ كونها تمثّل تاريخَ أممٍ، وحضارةَ شعوبٍ، وفلسفةَ مجتمعات.
وقد عُني التراثُ العربي بـ(المَثل)، واحتفى به علماءُ اللغة والبلاغة العربية تحديدًا، إذ يبيّن أبو عبيد القاسم بن سلام (224هـ) أهميتها، في كونها "حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، وبها كانت تعارض كلامها، فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها؛ فيجتمعُ لها بذلك ثلاثُ خلالٍ: إيجازُ اللفظ، وإصابةُ المعنى، وحُسنُ التشبيه"(2). وقدّم (ابنُ عبد ربِّه) (ت 327هـ) الأمثالَ على الشعر والخطابة، معرّفًا إياها، بأنّها "هي وَشيُ الكلام، وجوهر اللفظ، وحَلْي المعاني، والتي تخيَّرتْها العربُ، وقَدَّمتها العجم، ونُطِق بها في كل زمانٍ، وعلى كلِّ لسانٍ، فهي أبقى من الشعر، وأشرفُ من الخطابة، لم يَسِر شيءٌ مَسِيرَها، ولا عَمَّ عُمومَها، حتى قيل: أسيَرُ من مَثل"(3). وتُعدُّ الأمثالُ والحِكَمُ والأقاويلُ والحكاياتُ الشعبيّة، بالإضافة إلى الأهازيج والمهاجل والزوامل والأغاني الشعبيّة، وكذا الشعر العاميّ والحمينيّ من فُنون الأدب الشعبيّ في اليمن. وقد تسنَّى لأستاذنا الدكتور عبد العزيز المقالح دراسةَ شعرِ العاميّة في اليمن في أطروحته للدكتوراه عام 1978م، وكذلك للأستاذ عبد الله البردّوني دراسةَ فُنونِ الأدبِ الشعبيّ المختلفةِ المذكورة آنفًا في كتابيهِ: فنون الأدب الشعبي في اليمن، والثقافة الشعبية: تجارب وأقاويل يمنيّة. وعُنِيَ القاضي إسماعيل الأكوع بجمعِ أكبر موسوعةٍ في الأمثال اليمانيّة، وشرحها أيضًا، بالإضافة إلى مقارنته إيّاها بنظائرها من الأمثال الفصحى، ضمّت ستة آلاف ومئتين وسبعة عشر مثلًا(4).
ومن تلك المقولات والوصايا الحكيمة التي أثارت كتابتي لهذا المقال، هذه الحكمةُ المكتوبةُ باللغة الإنكليزية في ملبسٍ رجالي (t-shirt): "THE PAIN YOU FEEL TODAY IS STRENGTH YOU FEEL TOMORROW" ويمكنُ ترجمتُها بما يُرادفها، في المعنى والمغزى والمدلول والمراد، من حِكَمٍ أو أمثالٍ أو مُدوَّناتٍ مَسكوكة في اللغة العربيّة بالآتي: "الضَّربةُ التِي مَا تَقتُلُكَ تُقَوِّيك"، أي "سَتُقَوِّيكَ"، أو ترجمتُها - من لدنّي- بما يتّسق ويتناصّ مع ذلك، بما يأتي: "المعاناةُ التي أَوجَعَتكَ يَومًا مَا، أَو تُوجِعُكَ الآنَ، سَتُزِيدُكَ قُوَّةً وَصَلَابةً مُستَقبَلًا، أَو سَتَجعَلُ مِنكَ شَخصًا اِستِثنَائِيًّا" أَو "رُبَّ وَجَعٍ آلمَكَ، أوَ قَسوَةٍ كَابَدَتها فِي يَومٍ مَا، هِي السَّبَبُ فِي مَا صِرتَ إِلَيهِ مِن جَاهٍ وَعِزّ". ويتّسقُ مع ذلك أيضًا في المغزى والفحوى، هذه العبارةُ التي كثيرًا ما نسمعُها متداولةً في ألسنةِ معظمِ النّاس: "رَعَى اللهُ أَبِي أَو أَخِي أَو فُلَانًا، فَلَولَا شِدَّتَهُ عَليَّ مَا كُنتُ أَنَا". ومما يتناصُّ به الشعرُ العربي مع ما سلف فحوىً ودلالة، قولُ أبي العتاهية: (وَلَرُبَّ مُرٍّ قَد أَفادَ حَلاوَةً *** وَلَرُبَّ حُلوٍ في مَغَبَّتِهِ شُنَع)، وقولُ ابنِ الروميّ: (لله نَفسٌ يَومَ ذَاكَ أَذَلْتَهَا *** ولرُبَّ شَيءٍ صِينَ حِينَ أُذِيلَا)، وقولُهُ أيضًا: (ولرُبَّ شَيءٍ لَا يُبَيِّنُهُ *** وجدَانُهُ إلّا مَعَ العَدمِ)، وقولُ أديب إسحاق:
إِنْ يَقدِمُوا فَلَقَد تَقَدَّمَ ظُلمُهُم قَبلِي أَبِي حَامِيهُم الصِّندِيدَا
سَيُعِيدُ ظُلمهُم فَتىً مُتَظَلّماً وَلَرُبَّ ضُرٍّ قَد يَكُونُ مُفِيدًا
وقولُ ابنِ نباتة المصري:
هَوِّنْ عَليكَ فَرُبَّ خَطبٍ هَائِلٍ دُفِعت قِوَاه بِدَافِعٍ لَم تَدرِه
ولرُبَّ لَيلٍ فِي الهُمومِ كَدمل صَابَرتَه حتَّى ظَفِرتَ بِفَجرِه
ولرُبَّما يَجنِي الزَّمَانُ عَلَى اِمرِئٍ مَجنَىً- وَيَا عَجَبًا- حَلَاوةَ صَبرِه
وقولُ جعفر النقدي:
وَلَرُبَّ خَطبٍ هَائِلٍ أَضحَتْ تَذُوبُ لَهُ المُهَج
فِيهِ صَبَرتُ عَلَى الأَذَى وَالصَّبرُ مِفَتاحُ الفَرَج


الحكم والأمثال، دورها في التوجيه.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع