مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


✍️{فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


30/12/2022 القراءات: 378  


✍️{فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}
قال تعالى:
{فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
قد يُقصِّر بعض المسلمين في بعض الواجبات، وقد يرتكبون بعض المحظورات، وقد يترخصون أمام بعض الأحكام، وقد يتفلتون أمام بعض التكاليف، وقد لا يحققون التقوى التي طالبهم الله بها. وهذه الأمور كلها مخالفات قد يترتب عليها عذاب يوم القيامة.
ولكن بعض هؤلاء لا يكتفون بما وقع منهم، بل يضيفون إليه جريمة أشد، قد يترتب عليها عذاب أكثر إيلاماً. إنهم يلجأون إلى هذه الآية، ويحاولون أن يجدوا فيها دليلاً لهم وإعذاراً، ورخصةً وقبولاً لأعمالهم:
َاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ:
إنها تأمر المسلم بتقوى الله على قدر استطاعته -كما يقولون- ولهذا يبذل قدر استطاعته في الالتزام بالواجبات وترك المحظورات، وهذا ما طلبه الله منه. أما إذا ترك بعد ذلك بعض الواجبات فلا شيء عليه ولا حرج ولا إثم، وإذا فعل بعض المحرمات والمحظورات فلا ضير ولا إثم كذلك، لأن الآية تعذره، وتقدم له رخصةً ومخرجاً.
ويترتب على هذا الفهم الخاطئ لمعنى الآية، أن يتفاوت التزام المسلمين بالإِسلام أداءً لواجباته، واجتناباً لمحرماته. بحيث يختلف الالتزام بالإِسلام وتطبيقه من شخص إلى آخر حسب استطاعته، فكلٌ منهم يقدم صورةً خاصةً عمليةً عن أحكام الإِسلام، تختلف عن الصور التي يقدمها الآخرون، ويتحول الإِسلام -عملياً- إلى إسلامات. ويتحول تطبيقه إلى عدة تطبيقات. وتضيع مبادئ الإِسلام وأحكامه وسط هذه النماذج والعينات، التي يزعم كلٌ منهم أنه هو على الحق، وأن هذا هو الدين الذي يريده الله. وابحث عن الإِسلام الرباني وسط هذه التطبيقات المتفاوتة، التي تعتمد على " الهمَّة " الميتة، والقدرة العاجزة، والاستطاعة المريضة.
وحتى يكون فهمنا لمعنى الآية صحيحاً، وتصوُّرنا لقيد الاستطاعة فيها صوابا، لا بد أن نقرن معها آية أخرى، وهي قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
تأمرنا هاتان الآيتان بتقوى الله، وكل واحدةٍ منهما توضح المراد من الأخرى:
فآية آل عمران تأمر بأن نتَّقي الله حقَّ تقاته. ومعنى حق تقاته: تقوى حقة صادقة مخلصة جادة، بأن نبذل غاية وسعنا، وأقصى استطاعتنا، في تحقيقها وتحصيلها، وأن نبقى على هذه التقوى طيلة حياتنا، بحيث لا يموت الإنسان منّا إلا وهو مسلم.
تقوى الله حق تقاته في آل عمران معناها، بذل الوسع والجهد والاستطاعة في تحصيلها، كما طلبت آية التغابن.
وآية التغابن تأمرنا بتقوى الله بمقدار الوسمع والاستطاعة: {فَاتَّقوا اللهَ ما اسْتَطَعْتُمْ}، ويوضح المراد بقوله: {ما اسْتَطَعْتُمْ} قولُه في آل عمران: {حَقَّ تُقاتِه}، فلا يحقق المسلم التقوى بقدر الاستطاعة، إلا إذا كانت هذه التقوى حق التقوى. فكل من الآيتين توضح الثانية وتفسر معناها، وهما متلازمتان متكاملتان، لابد أن تُقرءا معاً، وتُفهما سوياً، وتُؤخذ دلالتهما مجتمعتين، حتى يكون المعنى صحيحاً مقبولاً.
ومما يوضح المراد من الآيتين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. حيث روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " دعوني ما تركتكم، إنما هلك مَن كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم. فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".
يدل هذا الحديث على موقف المسلم من الأوامر والأحكام الشرعية، فما نُهي عنه يجتنبه، لأن الحرام لا يجوز ارتكابه إلا عند الضرورة للمضطر، والضرورة تقدر بقدرها، ويحددها الشرع، وليس الشخص نفسه.
وأما ما أُمر به فإنه ينفذ منه ما يستطيع. والاستطاعة كذلك يحددها الشرع من خلال الرخص الشرعية، وليس الشخص نفسه.
وقد يقول قائل: ها هو الحديث الصحيح يطلب منّا أن نتناول الواجبات بقدر استطاعتنا، وهو ما نقوله نحن في التقوى والتطبيق.
نقول: إنه يجعل تطبيقنا للأوامر بقدر الاستطاعة. لكن مَنْ هو الذي يحدد الاستطاعة ومقدارها؟ ومن هو الذي يصدر الرخصة في ترك أو تغيير صورة بعض الواجبات؟.
إنه ليس الشخص، ليس هو الذي يحدد مقدار استطاعته، ولا هو الذي يحدد صورة الواجب بالنسبة له، ولكنه الشرع. إن الله عز وجل هو الذي يعلم مقدار الطاقة البشرية وحدود الاستطاعة فيها، ولذلك جاءت الرخص في الدين في بعض الحالات ولبعض الأشخاص، مراعاة لبعض الأعذار والأحوال. فالاستطاعة يحددها الشرع، وحالة الاستطاعة يفضِّلها الشرع، وصورة الواجب الجديدة يوضحها الشرع.
إن الحديث الصحيح الذي أوردناه، هو الذي يدل على ما قلناه ويوحي به، وبخاصة عند ملاحظة سبب وروده. فقد روى مسلم والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: خطبَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس قد فُرض عليكم الحج فحجّوا، فقال رجل: أفي كل عام يارسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً. ثم قال: ذروني ما تركتكم، ولو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم، وإنما أهلك من كان قبلكم كثرُة سؤالهم واختلافُهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه ".
إن الحديث في شأن الحج، وورد ردّاً على سؤالٍ لا معنى له لأحدهم: أفي كل عام يا رسول الله؟ فجاء الجواب: " لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم. ثم قال: ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ".
إنها استطاعة بخصوص الحج، الذي نصَّ القرآن على وجوبه على المستطيع: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}.
ويمكن أن نعمِّمها على الواجبات الأخرى، التي رخص الشرع فيها لغير المستطيع، مثل إفطار المريض والمسافر، ومثل قصر الصلاة للمسافر، وسقوط الزكاة عن غير القادر، وغير ذلك.
{اتقُوا اللهَ ما اسْتَطَعْتُمْ}: يفسرها قوله: {اتَقُوا اللًهَ حَقً تُقاتِه}، و {اتقوا اللهَ حَق تُقاتِه}: وضَّح معناها سلفنا الصالح.


✍️{فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع