مدونة سعد رفعت سرحت


إذا تَوقَّعْتَهُ فسيقَع لا محالة(علّة إخراج الترجّي من أساليب الطلب).

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


03/02/2023 القراءات: 1919  



علة خروج الترجّي من أساليب الطلب في البحث البلاغي شغلتنا كثيرًا،والسبب أنّ علماء العرب من أصوليبن و بلاغيين  وفلاسفة يختلفون في تصنيف التمني والترجي إلى درجة تجد من يجعلهما خبرا لا إنشاءً ، ولكن إجمالا يمكن الحديث عن المسألة عند من يجعل الرجاء إنشاءً غيرَ طلبيّ.


التمني والترجي كلاهما تعلّق القلب بالشيء من حيث يُتوقع،لكن أحدهما تعلّق القلب بأمرٍ على سبيل المحبة  إلّا أنّه غير ممكن و لا يُطمع في نيله أو حدوثه وهو التمني، والآخر تعلّقه بأمرٍ محبوب أو مكروه ممكن و يطمع  في نيله أو حدوثه ،وهنا يتضح الفرق بين الاثنين،فالتمني يدخل في المستحيلات والترجي لا يكون إلا في الممكنات،وهكذا يتميز التمني ب"ما لا يُرجى حصوله"إمّا لكونه مستحيلا ،أو لكونه غير مطموع في نيله،أمّا الترجي فبخلاف ذلك يقع في الممكنات و في ما يتوقع حصوله سواء أ كان محبوبًا أم مكروها.


والسؤال الذي بقي أبيًّا على الإجابة هو:كيف يدخل توقع المستحيل في الإنشاء الطلبي على حين يدخل توقع الممكن في الإنشاء غير الطلبي؟.


طُرح هذا السؤال كثيرًا،وظلّت الإجابات غير مقنعة،بل إنّ السواد الاعظم من الأساتذة والطلبة غير مطمئنين لصنيع البلاغيين وهم يُخرجون الرجاء من دائرة الطلب،عن نفسي لم أجد إجابة شافية.وظلّت إشارة احد شراح التلخيص هي المعتمدة للتخلّص من هذا الادغام،إذ يقول((الترجي هو ارتقاب الشيء وهو يشمل المحبوب والمكروه فليس من أنواع الطلب حقيقة،لأنّ المكروه لا يُطلب)) غير أنّ هذه الإشارة تشمل الترجي في حال إذا كان خوفًا أو إشفاقًا متناسيًا حال كونه توقّعًا لمحبوب،فما نزال نسأل هذا الشارح: و ماذا عن المحبوب أ هو أيضًا لا يُطلب؟!.




قديمًا انبنى تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء على أسس معينة،ومن ذلك_إجمالًا_ أنّ الكلام الذي يوضع للنسبة التامة بما هو حقيقة واقعة و أمر مفروغ منه يسمى خبرًا،و على أنّ الكلام الذي يوضع للنسبة التامة بما هي نسبة يراد تحقيقها يسمى إنشاءً.هذا من جانب،ومن جانب آخر انبنى تقسيم الإنشاء عندهم إلى طلبي وغير طلبي،على أنّ  منطلق الإنشاء الطلبي (( يستدعي مطلوبًا غير حاصل في اعتقاد المتكلم وقت الطلب))وأنّ الإنشاء غير طلبي يكون فيما هو حاصل في اعتقاد المتكلم وقت الطلب.


فالمعول عليه في كلتا القسمتين ما يأتي:


١_أن نتحدث عن حقيقة واقعة أو أمرًا مفروغًا منه(=خبر)
٢_أن نتحدث عن شيء نريد تحقيقه(=إنشاء)
٣_أنْ نتحدث عن شيء غير حاصل وقت الكلام نريد حصوله في اعتقادنا (=إنشاء طلبيّ)
٤_أنْ نتحدّث عن شيء حاصل في اعتقاد المتكلم،أو في حكم ما هو حاصل لا محالة (=إنشاء غير طلبي)


إذن لنرَ معًا أين يقع الترجي وفق هذه القسمة وبِمَ يتميّز عن التمني؟.


يبدو أنّ تمييز الرجاء عن التمني مرتبط في الوعي البلاغي بقضيتين دينيتين لهما حضورهما في الوجدان العربيّ،وإنْ لم يُصرّح بهما في متون البلاغة،ألا و هما قضيتا(حسن الظن بالله) و(القنوط)فإذا كان تمني الأمر المحبوب مرتبطا بالفقدان واليأس و انعدام الطمع في أشياء مستحيلة أو أشياء فيها عسر طبيعةً وعادة،فإنّ رجاء الأمر المحبوب والمكروه يرتبط بكلّ ما هو ممكن ومستقرب عادة.


خذ مثلا: قول أحدهم :(ليت الشباب يعود يوما) فهذا طلبٌ من قانط فاقد لأمر محال، وخذ قوله تعالى(يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون) فهذا طلبٌ من آيس معدم لأمر غير مطموع في نيله، وكلا الطلبين تعبير عن رغبة المتكلم في حصول عود الشباب و أن يؤتى مال قارون وليس عن كونهما محققَينِ في الواقع،فكلتا الرغبتين ممّا(لا يرجى حصولهما !) لا لشيء إلّا لأن الرجاء مستقرب غير مستبعد،والتمني مستبعد .


و إزاء ذلك خذ مثلا:(لعلّي أنجح)وهو توقّع محبوب غير محال ولا مستبعد،و خذ مثلًا:(لعلّ فلانًا يرسب) و القائل يتوقع رسوبه وليس ذلك بمعجز.


عندما تنظر في كلا المثالين تتصورهما طلبًا ،ولكنَّ للبلاغيين رأيًا آخر،لأنّ كلا المثالين ليسا تعبيرا عن شيء غير حاصل وقت الكلام ونحن نريد حصوله[انظر نقطة٣]،بل هما تعبير عن أمر ينزل منزلة ما هو حاصل لا محالة في اعتقاد المتكلم الذي ((ينتظر وقوعه !))فمن معاني الترجي_بل أشهر معانيه_ ((التوقّع والأمل)) أو التوقّع الذي يعني ترقّب شيء حاصل ولكنه مُرجَأ(مؤجٍل) أو التوقع المشوب بالخوف ((لأنّ الراجي يخاف ألّا يدرك ما يترجاه))ولكن ينبغي ألّأ يفهم الخوف هنا على أنه عائق أو حائل دون نيلك ما ترجوه،إذ يكفي أن ((يكون لك توقع وطماعية في وقوعه)) والله تعالى عند ظنّ عبده !.


لم يعوّل البلاغيون في هذا الشأن على الملفوظ وحده أو النسبة الكلامية ،بل راعوا الجانب العقدي و الأخلاقي في التواصل،و إلّا فمن منّا يقنع بكلام شارح التلخيص وهو يعلل إخراج الترجي من دائرة الطلب:(( لأنّ المكروه لا يُطلب))؟.نعم فهذا تعليل غير مقنع،ولكننا سنتقنع_بل نؤمن_ حين يُشفع مثلا بقول الإمام علي_كرّم الله وجهه_ حين يقول:((وكل متوقع آت، وكل آت قريب دان))و الناس عندنا اليوم يحملون في وجدانهم هذا المبدأ و يؤمنون به،فالشيء إن توقعته سيقع لا محالة.


الرجاء،إذن، سواء أكان على سبيل المحبة أم على سبيل الكراهة،فإنّه في مقام الواقع حقّا،ونسبته الخارجية على شفا حفرة من الوقوع،فمن معاني الرجاء أيضا قرب الوقوع ومنه الرجوة والارجاء والأرجاء والرجوى وهو((جانبا الحفرة !))إذ تتمثّل هذه النسبة الخارجية باعتقاد المتكلم وإيمانه بتحققّ المرجو عاجلًا أم آجلًا،و القضية في رأيي لا تخرج عن التشاؤم والتفاؤل و حسن الظن وسوء الظنّ بالله تعالى.



وإذا كان وقوع الشيء المرجو متحقّق لا محالة فإنّ الترجي يكاد أو على وشك أنْ يقترب من (الإيقاعيات) بتعبير التداوليين ،لأنّ المترجى((أمرٌ يُعتقد حصوله و إمكانه))أي يستدعي مطلوبًا ممكنا وحاصلا في اعتقاد المتكلم وقت الطلب(انظر نقطة٤) فالرجاء مشتمل على شرط جوهري من الإنشائيات الايقاعية وهو الاعتقاد بحصوله،و كأنّ بينه الراجي و من يرجوه عهد.


الترجي ليس من الإنشاء طلبي


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع