مدونة عبدالحكيم الأنيس


هذه الدنيا فهل من معتبر؟ (1)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


30/11/2022 القراءات: 911  


(كنتُ أقيّد ما يمرُّ بي في أثناء النظر في الكتب ما يتعلق بحال الدنيا وتقلُّبها، ثم رأيتُ الحافظ ابن رجب -رحمه الله- قد أورد كلامًا رائعًا في ذلك في كتابه "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف"، ولعله أفاد فيه من ابن الجوزي -رحمه الله-، فأحببتُ إفرادَه والتنبيهَ عليه، ولفتَ النظرِ إليه.
وهذا هو الفصل المراد، مضبوطًا، مُفقّرًا، مفصولًا بين نقولاته؛ لتُقرأ براحةٍ ويُتأمّلَ فيها، مُعلقًا عليه تعليقات يسيرة.
وأدعو مَنْ يقرأه أن يُضيفَ إليه، ويزيدَ عليه، مما قرأ، أو رأى، أو سمع.
نبّهنا اللهُ مِنْ رقدة الغافلين، وجعلنا من الـمُتّعظين.
وجزى اللهُ ابنَ رجب خيرَ الجزاء على هذا الجمع المفيد، والتوجيه السديد).
قال رحمه الله:
"وفي القرآن نظيرُ هذا وهو التعريضُ بذمِّ الدنيا وفنائِها، مع مدح الآخرة وذكرِ كمالها وبقائِها، كما قال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد}.
وقال اللهُ تعالى: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} الآية ثم قال: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم * للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}.
وقال اللهُ تعالى: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة} الآية.
وقال اللهُ تعالى: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}.
وقال اللهُ تعالى: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته} إلى قوله: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله}.
وقال اللهُ تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى}.
وقال اللهُ تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}.
وقال اللهُ تعالى عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه: {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار}.
والمتاع: هو ما يتمتعُ به صاحبُهُ برهةً ثم ينقطع ويفنى.
فما عِيبتْ الدنيا بأكثر مِنْ ذكر فنائِها وتقلُّب أحوالها، وهو أدلُّ دليلٍ على انقضائها وزوالها، فتتبدلُ صحتُها بالسقم، ووجودُها بالعدم، وشبيبتُها بالهرم، ونعيمُها بالبؤس، وحياتُها بالموت، -فتفارق الأجسامُ النفوس-، وعمارتُها بالخراب، واجتماعُها بفرقة الأحباب، وكلُّ ما فوق التراب تراب.
***
قال بعضُ السلف في يوم عيدٍ -وقد نظرَ إلى كثرةِ الناسِ وزينة لباسهم-: هل ترون إلا خرقًا تبلى، أو لحمًا يأكله الدودُ غدًا؟
***
كان الإمامُ أحمد رضي الله عنه يقول: يا دارُ تخربين ويموتُ سكانُك.
***
وفي الحديث: عجبًا لمن رأى الدنيا وسرعةَ تقلُّبِها بأهلها كيف يطمئنُّ إليها!
***
قال الحسنُ: إنَّ الموتَ قد فضحَ الدنيا فلم يدعْ لذي لبٍّ بها فرحًا.
***
وقال مطرِّف: إنَّ هذا الموتَ قد أفسدَ على أهل النعيم نعيمَهم، فالتمِسوا نعيمًا لا موتَ فيه.
***
وقال بعضُهم: ذهبَ ذكرُ الموت بلذةِ كلِّ عيشٍ، وسرورِ كلِّ نعيمٍ. ثم بكى وقال: واهًا لدارٍ لا موتَ فيها.
***
وقال يونسُ بن عبيد: ما ترك ذكرُ الموتِ لنا قرةَ عينٍ في أهلٍ ولا مالٍ.
***
وقال يزيدُ الرَّقاشي: أمنَ أهلُ الجنة الموتَ فطابَ لهم العيش، وأمنوا الأسقام، فهنيئًا لهم في جوار الله طولُ المقام.
***
عيوبُ الدنيا بادية، وهي بعِبرِها ومواعظِها مُنادية، لكنَّ حبَّها يعمي ويصم فلا يَسْمع محبُّها نداءَها، ولا يرى كشفَها للغير و إيذاءها.
قد نادت الدنيا على نفسِها ... لو كان في العالم مَنْ يَسْمعُ
كم واثقٍ بالعُمْرِ أفنيتُهُ ... وجامعٍ بدَّدتُ ما يجمعُ
كم قد تبدَّل نعيمُها بالضر والبوس؟
كم أصبح مَنْ هو واثقٌ بملكها وأمسى وهو منها قنوط يؤوس؟
***
قالتْ بعضُ بنات ملوك العرب الذين نُكبوا: أصبحنا وما في الأرضِ أحدٌ إلا وهو يحسدنا ويخشانا، وأمسينا وما في العربِ أحدٌ إلا وهو يرحمنا. ثم قالتْ:
وبينا نسوسُ الناسَ والأمرُ أمرُنا ... إذا نحنُ فيهم سُوقةٌ ليس نُنْصفُ
فأفٍّ لدارٍ لا يدومُ نعيمُها ... تُقلبُ تاراتٍ بنا وتُصرَّفُ
***
دخلتْ أمُّ جعفر بن يحيى البرمكي على قومٍ في عيد أضحى تطلبُ جلدَ كبشٍ تلبسه، وقالت: هجمَ عليَّ مثلُ هذا العيد وعلى رأسي أربعُ مئة وصيفة قائمة وأنا أزعمُ أنَّ ابني جعفرًا عاقٌّ لي.
***
كانتْ أختُ أحمد بن طولون -صاحبِ مصر- كثيرةَ السَّرف في إنفاق المال حتى إنها زوَّجتْ بعضَ لُعبها فأنفقتْ على وليمةِ عرسها مئة ألف دينار، فما مضى إلا قليلٌ حتى رُؤيتْ في سوقٍ من أسواقِ بغداد وهي تسألُ الناسَ.
***
خُلِعَ بعضُ خلفاء بني العباس، وكُحلَ، وحُبسَ، ثم أُطلقَ فاحتاجَ إلى أن وقفَ يومَ جمعةٍ في الجامعِ وقالَ للناس: تصدَّقوا عليَّ فأنا مَنْ قد عرَفتم .
***
اجتاز بعضُ الصالحين بدارٍ فيها فرحٌ، وقائلةٌ تقولُ في غنائها:
ألا يا دارُ لا يَدْخلْك حزنٌ ... ولا يُزري بصاحبك الزمانُ
ثم اجتاز بها عن قريبٍ وإذا البابُ مُسودٌّ، وفي الدار بكاءٌ وصراخ، فسأل عنهم؟ فقيل: مات ربُّ الدار. فطرق البابَ وقال: سمعتُ مِنْ هذه الدار قائلةً تقول كذا وكذا، فبكت امرأة وقالت: يا عبدَالله إن الله يغيِّرُ ولا يتغيرُ، والموتُ غاية كلِّ مخلوقٍ. فانصرَفَ مِنْ عندهم باكيًا.
***


تقلبات الدنيا


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع