مدونة د. جميل مثنى الحبري


في إجلال العلماء وتقديرهم منازلهم: د. عبد الله حسين البار (١)

د. جميل مثنى الحبري | Jameel Alhipary


10/04/2022 القراءات: 906  


في أغسطس 2001م، وتحديدًا إبّانَ التنسيق للالتحاقِ بجامعةِ صنعاء، توجهّتُ إلى كليّة الآداب للتسجيل في قسم اللّغة الإنجليزية، لحبِّي العارم لهذه اللّغة، والتولّع في اكتسابها منذ أن كنت في الإعدادية، لاسيّما وأنّني كنتُ أحبُّ معلِّمنا إيّاها- جزاه الله خيرًا- الأستاذ السودانيّ عبد الملك التيجاني، الذي درّسنا إيّاها خلال مرحلة الإعداديّة (9/ 1994م- 5/ 1997م). ولكن شاءت الأقدارُ أن لا أوفّقَ في الالتحاقِ بالقسم، بسبب كثرةِ عددِ المتقدمين البالغ عددهم يومذاك ما يربو على الألف طالب، وقلّة عددِ المطلوبين مئة طالب، فضلًا عن حسمِ النتيجة مسبّقًا لحساب طلابٍ مدرجَة أسماؤهم في الكشف. وحينئذٍ عزمتُ في نفسي أن أعاودَ الكرَّةَ مرّةً أُخرى في العامِ القادم، وحرصًا على أن لا يفوتني هذا العام، فكّرتُ في الالتحاق بقسم اللّغة العربيّة، والإفادة منه، كونها كانت الرغبة الثانية بعد اللّغة الإنجليزية. وشاء الله أن تكون أولى المحاضرات التي أطلّتني في قسم اللّغة العربية، كانت للدكتور عبد الله حسين البار، في الأدب الجاهلي، فما أن بدأ محاضرته في مسألة "النحل والانتحال في الشعر الجاهلي" التي استمرّت لعدّة محاضرات، حتى وجدته مسترسلا في مناقشةِ أفكارِها والخوضِ فيها، وسردِ آراء المؤيّدين لها والمعارضين من المتقدّمين والمتأخّرين، وفي تفنيدِ بعضِ وِجهات النّظر فيها، لا سيّما تلك التي أثارها د. طه حسين وأستاذه المستشرق مرجليوث، بمنهجيةٍ علميّةٍ ودقّةٍ موضوعيّةٍ متناهية، كما هي سمةُ أستاذنا في طرحِ قضايا الأدبِ ومسائله، وفي معالجتِها، سواء في تناولِه لاتجاهاتِ الأدب القديم المتعدّدة: الجاهليّ، والإسلاميّ، والأمويّ، والعباسيّ، والأندلسيّ، وعصرِ الدول والإمارات، أم في تناوله للأدبِ الحديث أو الأدب اليمنيّ أو الأدب الشعبيّ، وكذلك في تدريسها. ولعلّ انتهاجَه هذه المنهجية في تدريسِ الأدب- التي يختلفُ فيها عن تلك الطريقةِ المنتهَجةِ لدى بعض أساتذةِ الأدب في الاقتصارِ على الانشغالِ بتاريخ الأدب، وملابساتِ العصر الاجتماعيّة والسياسيّة والبيئيّة، وبأحوالِ الأدباءِ ونفسيّاتِهم ومعيشتهم، على حساب (الأدبِ)- ذاتِه- بأجناسه المتعدّدة القديمة منها والحديثة- يرجعُ إلى قناعتِه بعدمِ جدوى الانشغالِ عن الأدبِ بما سواه من جهةٍ، ولأنّ التعرّض للمسائلِ والقضايا في أدبٍ ما، ما يُغني الباحثَ ويُسعفه في التماسِ خصائصَه وسماتِه، وفي استجلاءِ طرائقِ الأدباءِ وآليّاتِهم في تشييدِ مِعمار أدبِهم، وفي تشكيلِ فنونِهم الإبداعيّة. عندئذٍ أدركتُ- بفضلِ جهودِ بعضِ أساتذتِنا في القسم، وتأثرًا بشخصيّة أستاذِنا وسَمتِه ووقارِه Charisma على وجهِ الخُصوص- أنّني قد حصَّلتُ بُغيتي، بتعلّم العربيّة وفي تعلّمِها، ونلتُ ما كنتُ أنشدُه من طلبِ العلم وتَطلابِه، وما سُخِّرتُ له، أو سخّرَني اللهُ له في هذهِ الحياة.
وعلى الرغمِ من أنّ أستاذنا متخصّصٌ في الأدب الجاهلي، فإنّه موسوعيٌ، جِهبِذٌ، مُتضلِّعٌ من علومِ العربيّة وآدابها وبلاغتِها، وفي النقدِ الأدبيّ القديمِ والحديثِ على حدٍ سواء، ومُتمرّسٌ أيضًا في المناهجِ النقديّة الحداثيّة، وعلى الأخصِّ منها المنهجُ الأسلوبيّ البنيويّ، فضلًا عن إلمامِه بالأدبِ السردي ونقدِه ونظريّاته، وبالروائيّين وكُتّاب القصّة والقصّة القصيرة في الأدب العربي، وجانبًا من الأدب الغربي. وقد خَبِرَه طلّابُه وأدركوا ما حباهُ الله من ملَكَةٍ وقدرةٍ على القراءة والتحليل والاستنباطِ والرصدِ والمعالجة. ويمتازُ أستاذنا بكونه مُحاضرًا من الطراز الأول، يأسرُ متلقّيه وطلّابه بموسوعيّته ومعلوماته الغزيرة؛ فقد كانت محاضراتُه وندواتُه ينبوعًا يتدفّقُ العلمُ من رأسِ أستاذنا- زادَهُ اللهُ عِلمًا ورِفعةً- ومن بينِ شفتيه؛ ينهلُ من مَعينِه طلّابُه ما شاءَ اللهُ لهم، وما وسِعَهم ذلك. وما ذلك إلّا لإحساسِه بعِظَم المسؤوليّة المُلقاةِ على عاتقِ العلماء، في تبليغِ ما حبَاهم اللهُ من علومٍ ومعارفَ، وفي وجوبِ عدمِ كتمانها.
ويتّسمُ أستاذُنا الجليلُ أيضًا، بذهنيّته المتّقِدة، وبحضورِ البديهة، فبمجرّد سؤاله عن مسألةٍ من المسائلِ الأدبيّة أو النقديّة أو البلاغيّة أو في الأدب السردي، إلا وتجده مُسترسلًا في سردِ ما يتعلّق بتلك المسألة، مستفيضًا فيها من جميعِ الجوانب، لا ينزعجُ البتّة من سؤالٍ ما، ولا يصدُّ سائلَه عن استفسارِ ما أشكلَ عليه؛ مُحبٌّ للعلم، مِعطاءٌ، لا يبخلُ على طلّابه بما حبَاهُ اللهُ، ولا على مَن يقصِده في مشورةٍ أو مسألةٍ علميّة، فقد كان نِعمَ الُمرشدُ والموجِّهُ لي عندما قصَّدتُه عام 2009م- على استحياءٍ؛ خوفًا من أن أشغلَه عن عملِه حينذاك كنائبٍ للعميدِ لشؤونِ الطلّاب- في موضوعِ رسالتي للماجستير، فرحّبَ بي، واستقبلني في مكتبِه. وكنتُ حينَها أودُّ دراسةَ جهودِ عددٍ من النقّاد العرب الحداثيّين في قراءتِهم للتراثِ البلاغيّ والنقديّ، فأشارَ عليّ بالاكتفاءِ بجهودِ النّاقدِ المغربيّ (محمّد مفتاح) الذي وافتهُ المنيّةُ الأُسبوعَ الماضي، رحمةُ اللهُ تغشاه. وممّا يتحلَّى به أستاذُنا الجليلُ أيضًا، في كونه غيرَ مُتعالمٍ على زملائِه ولا على طُلّابه، وغيرُ مُدّعٍ المعرفة؛ فقد سألتُه يومًا عن كتاب (الشعريّة البنيويّة) لجوناثان كلر، فأخبرني أنّه لم يطّلع عليه بعد، وأنّه يبحث عنه. ناهيكَ عمّا يمتازُ به من انضباطٍ في حبِّ التعليم، والمُداومة على حضورِ مُحاضراتِه، وفي عدمِ التغيّب عنها طوالَ تلكَ السنواتِ التي درّسَها في جامعة صنعاء، لما يربو عن عَقدين حتّى مغادرتِه صنعاءَ إلى المكلّا، بسببِ وفاةِ أخيه، واضطرارِه لذلك، لرعايةِ أسرة أخيه هناك. بالإضافةِ إلى اتّسامِه بالنشاطِ والحيويّة، فقلّما تجد أستاذًا يُدوّن محاضراتِه بخطّ يده التي يتجاوز عددُها في فصلٍ دراسيٍ واحدٍ ثلاثمئة صفحة، فضلًا عن المراجعِ الأخرى المضافة إلى المادة المدرّسة؛ فمازلتُ أحتفظُ بتلكَ المُحاضراتِ؛ في الأدب الجاهلي، وفي مناهجِ البحث، وفي علمِي العروضِ والقافية، وفي علمِ البيان، وفي علمِ البديع،


في إجلال العلماء، د. عبد الله حسين البار.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع