مدونة سعد رفعت سرحت


اتّساق النص ثقافيًّا(البحث عن تماسك في أشياء تبدو غير متماسكة)

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


23/05/2023 القراءات: 1029  




الشعر الجاهلي في نظر المستشرقين غير متّسق، والقرآن الكريم في نظرهم_وفي نظر تلامذتهم المستنيرين العرب_نصّ غير متسق أيضًا،إذ يتفقون جميعًا على أنّ بناءهما يفتقر الى التدرج ،تعوزه صلة التراكيب ببعضها ،وملائمة هذه التراكيب لسياقها ،ومن ثمّ انعدام جامع يجمع بين أوصال النص.


كانت جهود المستشرق منصرفة إلى تسييق النص، و إعادة تركيبه، والبحث فيه عن حلقات مفقودة طالتها يدُ السلطة وأهواء الرواة بزعمهم،فعندهم أنّ البحث عن "النصّ الأصلي" أو "النسخة الأصل"رهانٌ قائم إلى اليوم.


والحقّ أنّ البحث عن الاتساق لا يرتبط بوجود نص أصلي ونصّ محرّف،بل يعود بالضرورة إلى مرجعية المستشرق الثقافية، فالثقافات عبارة عن نصوص،وكلّ ثقافة في نظر أختها نصّ مهلهل النسيج يعوزه التنظيم والاتساق،وكما قلنا قبل صفحات:إنّ الثقافات موضع سخرية في نظر بعضها،ولعلّ الشعر الجاهلي في نظر المستشرق لا يختلف كثيرًا عن قصيدة النثر والهايكو في نظر العرب اليوم ،وإلى هذا أصبح من مسلمات الخطاب الاستشراقي القولُ بأنّ الشعر الجاهلي لا يتّسق إلّا حين يُقرأ قراءة"حفرية" كفيلة بأنْ تَسترد سياقه و تعيد صياغته لكي يُوضع كلّ شيء فيه موضعه الذي يقتضيه، ولعلّ موقفهم من القرآن الكريم لا يختلف عن موقفهم من الشعر الجاهلي،فكلّ ما طُبّق على الشعر من نظريات طُبّق على القرآن الكريم..


كانت العرب قديمًا تتلقّى الشعر الجاهلي على حرارته بعفويةٍ و قبولٍ بالغينِ و بلا توسّط،فهو نص متّسق ثقافيًّا،لأنّ انتظامه مرتسمٌ في خيال القوم،إنّه شعرٌ مصوغ على أقدار العرب وحظوظهم من المعرفة،فقد كان يجري على "إلف العرب وعادتهم". وكذا حين نزل القرآن الكريم تلقّاهُ خيالهم بالرضا والانبهار،إذ كانت آياته تطال أعماقهم وتأسٌر وجدانهم....


ومع مرور الزمن أخذ الناس ينأون عن طباعهم بحكم الاختلاط بالشعوب الأخرى ، فغلبت العجمة على لسانهم وبعدت الشقة بين تلك الآثار ومداركهم،وشيئًا فشيئًا تلاشى فيهم ذلك الحسّ، وضعفت فيهم تلك الملكة،فأخذوا يستعينون في تلقي آثار أسلافهم بالوسائط،ولا يلبث أحدهم وهو يطّلع على تلك الآثار حتى يعيد فيها النظر تلو النظر محاولةً منه للمّ شملِ أوصالهِ وبعث سياقه،فقد وجدوا أنفسهم إزاء ألفاظ و تراكيبَ ليست بينها مناسبة واضحة،فاستعانوا في إيجاد صلة مناسبة بين هذه الأشياء غير المتناسبة بالتدبّر و السؤال:(كيف يستوي هذا مع ذاك؟_لماذا عدل عن كذا إلى كذا؟.)


هذه الأسئلة تدلّ على أنّهم كانوا إزاء نصّوص غير متّسقة لا رابط يربط بين أوصالها،ولا تنتظم إلّا بإمعان النظر وإجالته، فأنْ يتّسقَ النصّ معناه أنْ نبحث فيه عن الحكمة من اقتران هذا الجزء بذاك،وهذه الوصلة بتلك،وهذا البيت بذاك.


خذْ _مثلًا_كيف تعاطى المفسرون والبيانيون مع قوله تعالى:(أفلا ينظرون إلى الإبلِ كيف خُلِقت وإلى السماء كيف رُفِعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سُطِحتْ....)


إذ الآية _في نظرنا نحن_غير متسقة،وإلّا فما صلة الإبل بالسماء والجبال والأرض في هذه الآية؟.فأخذوا ينقّبون عمّا يوجِبُ الجمع بين أشياءَ متفرقة في صعيد واحد.


قالوا:جاء الجمع بين هذه الأشياء(( على مجرى الإلف والعادة بالنسبة إلى أهل الوبر،فإن كل انتفاعهم في معايشهم من الإبل، فتكون عنايتهم مصروفة إليها، ولا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب، وذلك بنزول المطر،وهو سبب تقلب وجوههم في السماء، ثم لا بدّ لهم من مأوى يؤويهم، وحصن يتحصنون به،ولا شيء في ذلك كالجبال. ثم لا غنى لهم - لتعذر طول مكثهم في منزل - عن التنقل من أرض إلى سواها، فإذا نظر البدوي في خياله وجد صورة هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور.))[راجع البرهان للزركشي:١ /٤٥ كذلك الكشاف]


إنّ النصوص العظيمة فيها الكثير من البياضات، و الكثير من التغاضي عن الألفة ،والكثير من احتمالية الدلالة، حتى لتبدو في نظر أهل الثقافة غير متماسكة،فكيف عند الدخلاء على الثقافة؟!


إنّ النصوص لا تتماسك وتتّسق إلّا بالتأويل وإعمال الفكر و إجالة النظر في عمق الثقافة التي تحتضن هذه النصوص،ذلك أنّ اتّساق النص مسألة ثقافية أكثر منها لغوية،ولو جاز لنا أنْ نعرّف الاتّساق وفق هذه الرؤية لقلنا((هو البحث عن الاتساق في آثار تبدو في الظاهر غير متسقة،ومهمّة القارئ أنْ يعيد إلى النص اتساقه للخروج منه بدلالة ....))هذا هو مغزى معيار "الاتّساق" في نظرية نحو النصّ.

ليس الاتساقُ،إذن، البحثُ عن عناصرَ ظاهرةٍ تشدّ أسر النص فحسب كالإحالة بالضمير أو الإشارة والموصول أو التكرار أو أدوات الربط ....إلخ ،بل هو في الوقت ذاته بحثٌ عن عناصر مغيّبة عن النصّ تنتظر التنقيب،فمن دون بعث هذا المغيّب لا يستوي النص ولا يحمل معنى.


والغريب أنّ الباحثين في نحو النص لا ينتخبون من النصوص إلّا النص المتّسق الظاهر اتساقه كقطعة من الكونكريت مسلّح بشبكات من الحديد والليف ،أمّا النصّ الذي تكثر فيه الفراغات وتقلّ فيه وسائل التماسك فينفرون منه.



انظر في الدراسات الرائدة في العالم العربي كانت كلّها متّجهة صوب نصوص تفتقر إلى الاتساق السطحي،لاسيّما تلك الدراسات التي انتخبت القرآن الكريم أو النص الجاهلي أو قصائد حداثية شديدة التعقيد.........









اتساق النص من منظور ثقافي


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع