مدونة مسعد عامر سيدون المهري


الفصاحة وشروطها في الخطاب الأدبي

مسعد عامر سيدون المهري | Musaad Amer Saidoon Almahry


22/12/2022 القراءات: 414  




تميز المدونة البلاغية التراثية بين مفهومي الفصاحة والبلاغة، من ناحية الشروط والتعلق من جهة، ومن ناحية عناصر الخطاب .. ففي حين يكمن تعريف الفصاحة في كونه وصف للكلمة ، والكلام ، والمتكلم، يقتصر وصف البلاغة على الكلام والمتكلم فقط ..
ففصاحة الكلمة تخضع لمعايير ثلاثة قائمة على الخلو ، فمتى ما خلت الكلمة من هذه المعايير ارتفعت إلى واجهة الفصاحة ، واستحقت هذا الوصف.
فمن ذلك أن تخلو الكلمة من تنافر الحروف، وقد نظر الفصحاء إلى الكلمات العربية ، فوجدوا منها ما هو مقبول مستساغ، ترد الاصوات والحروف منسجمة سهلة على النطق، مقبولة على اللسان ، عذبة في سياق الكلام ، وهو بطبيعة الحال كثير في كلام العرب ، الا ما ورد الإشارة إليه ، مثل لفظة الهعخع ، حيث كمن التنافر هنا في الصعوبة التي يواجهها الناطق بهذا اللفظ .. والناظر إلى هذه اللفظة يجد فيها تكلف وتعمّل هو سبب بعدها عن الفصاحة ، لا تنافر حروفها إذ حروفها قريبة المخرج فهي حلقية، وهناك ألفاظ كثير سهلة فصيحة متنافرة المخرج مثل شرب وعمل وأكل ، فليس ثم تقارب في مخارج هذه الألفاظ ، وهناك ألفاظ سهلة النطق فصيحة ومع ذلك تخرج من مخرج واحد مثل كلمة فم ، فكل حروفها شفوية حتى إذا استعدنا اللام المحذوفة وهي هنا (الواو) ..
ومن الألفاظ التي خرجت عن دائرة الفصاحة تحت هذا العيب، لفظة ( مستشزارات) وهي لفظة صعبة النطق خصوصا في هذا الزمان الذي بعدت آذننا عن سماع مثل هذه الألفاظ الجزلة ، اذكر أني في المدرسة, فسألين أحد المديرين المساعدين عن أصعب لفظة عربية ، فنقبت في الذهن ، فلم يقع إلا على هذه اللفظة ، فذكرتها لهما وانا أتساءل في نفسي هل ثم لفظة أخرى وانا اجهلها؟ وفعلا عجز الأستاذان الفاضلان عن نطقها في للوهلة الأولى إلى أن ذكرت لهما بيت امرئ القيس وتمرنا  عليها أكثر من مرة حتى ألفاها وهما في غاية الاعجاب منها .. أما البيت الذي ورد فيه هذه الكلمة فهي قول امرؤ القيس من معلقته المشهورة واصفا شعر محبوبته الكثيف الاثيث اي الشديد السواد :-
غدائره مستشزارات إلى العلا
يضل العقاصة بين مثنى ومرسلِ
في الواقع أن البلاغيين القدماء اعتبروا هذا اللفظ خارج حلبة الفصاحة نظرا للتنافر الصوتي فيه فالكمة مزجت  صفات صوتية قد لا تجتمع في لفظة فصيحة ... أما المعاصرون فقد رأوا فيها ملمحا بلاغيا تعبيىريا قائما بالمعنى ، يقول شيخنا المحقق الدكتور عبدالحميد هنداوي بمعناه أن اللفظة هنا أكثر ما تكون تعبيرا عن صورة الشعر الكثيف المنتفش الذي تضل فيه المدارى أي الامشاط ، وقد ساعد على تمثل هذه الصورة هذا التنوع الصوتي أو التنافر كما يسميه البلاغيون القدماء ساعد على نقل هذه الصورة ، فالسين صوت مهموس والتاء مجهور، والشين مهموس، ثم الجزاء مجهور، ثم تنوع في الصفات يحاكي هذا التنوع صورة الشعر التي يريد الشاعر أن يقدمها للمتلقي في مخيلته.
ومعنى هذا أن الألفاظ في تركيبها الصوتي تقدم تصورا للمعنى. وبالعودة إلى لفظة ( الهخهع) وقد قيل إنه نبت في الصحراء مر تأكله الإبل ، لا يبعد أن نقول قياسا على ماسبق أن هذا النبت الغريب المر المذاق بالنسبة للإبل، مثلثه هذه الكلمة خير تمثيل وذلك أن العربي ابن بيئته فهو يسمي الاشياء بمسمياتها الحقيقية التي تقع عليها عينه وتسمعه أذنه .
أما الشرط الثاني من شروط فصاحة الكلمة فهو خلوها من مخالفة القياس، ويراد منه كون الكلمة غير جارية على القانون الصرفي ، مثل جمع كلمة بوق على بوقات في قول المتنبي-
فإن يكن بعض الناس سيفا لدولة .. ففي الناس بوقات لها وطبول ..
والقياس جمع القلة في كلمة بوق على أبواق ..
ومن ذلك تفكيك التضعيف في كلمة الأجل من رجز أبي النجم:-
الحمد لله العلي الأجللِ..
وكذا لفظة موددة من قول الراجز:-
إن بني للئام زهدة ... مالي في صدورهم من موددة ..
والناظر في الشواهد السابقة يجد أنها ورادة في الشعر لذا قد يتبادر إلى الذهن أن مخالفة القياس في الشعر إنما جاء استجابة للضرورة الشعرية وهذا فهم خاطيء؛ لأن الجواز لا ينافي انتفاء الفصاحة فإن كثيرا من الألفاظ مع كونها جائزة مخلة بالفصاحة.
أما خلو الكلمة من  الغرابة، وهو الشرط الثالث ؛ فهو كون الكلمة غير ظاهرة المعنى ، مثل لفظة تكأكتم وانفرقعوا في قول عيسى بن عمر وقد اجتمع الناس عليه حينما سقط عن حماره.. ويقصد بقولهم غير ظاهر المعنى:اي غير ظاهر الدلالة على المعنى الموضوع له، المحمول عليه فلا يصدق هذا التعريف على المتشابه والمجمل حتى يلزم اشتمال القران الكريم على الغريب؛ لوقوعها فيه وذلك أن كل منهما و إن كان غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد لكنه ظاهر المعنى الموضوع له لسهولة انتقال الذهن منهما إلى معناهما الموضوع له .. ولعلهم يمثلون لذلك بما أنشده رؤبة وفاحما ومرسنا مسرجا.. فكلمة مسرجا غريبة لأنه لا يدرى ماذا يقصد الشاعر بهذا الوصف؟ هل يقصد مرسنا مسرجا أي مضيء كالسراج؟ أم لامعا كالسيف السروجي؟
أما فصاحة الكلام فسلامته من تنافر الكلمات مجتمعة، و من ضعف التأليف، ومن التعقيد المعنوي مع فصاحة كلماته.. بالتوافق وصف في الكلام يوجب ثقله على اللسان وعسر النطق به ..مثل قولهم:
وقبر حرب بمكان قفر.. وليس قرب قبر حرب قبر.. وكذا قول القائل:
كريم متى أمدحه وأمدحه والورى.... معي وإذا ما لمته لمته وحدي
فمنشأ الثقل في الاول التقاء مجموع كل كلمة مع مجموع الأخرى ، أما الثاني فمنشأ الثقل فيه اجتماع الحاء مع الهاء في كلمة معهما في كلمة أخرى ، وان كان مجرد الجمع بين الحاء والهاء غير مخل بالفصاحة..
أما ضعف التأليف فهو عيب تركيبي ينظر فيه إلى الرتب في الجملة من حيث التقديم والتأخير المفهوم المعتاد عن المتلقي ، فما خالف التأليف الطبيعي لا لمجرد نكتة بلاغية عد غير فصيح..فكون الكلام غير جار على القانون النحوي المشهور كالاضمار قبل الذكر لفظا ورتبة في قوله :-
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبرٍ.  وحسن فعل كما يجزى سنمار
فقد ذكر فيه ضمير بنوه قبل ذكر مرجعه أعني أبا الغيلان لفظا ورتبة ومعنى وحكما..وتقديره ك ضرب غلامٓه زيدٌ ..على أن زيدا فاعل فإن مرجع .


الفصاحة ، الأدب ، الخطاب


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


الضمير في غلامه هو زيد وإن كان مؤخر بحسب اللفظ لكنه مقدم بحسب الرتبة والتقدير لكونه فاعلا، والمرجع هاهنا لكونه مفعولا في رتبة التاخير  . وأما من حيث المعنى فإن المراد هو ذكر ما يقتضي معناه وان لم يذكر لفظه ، مثل قوله تعالى اعدلوا هو أقرب للتقوى. بالخير عائد على العدل المفهوم من قوله ( اعدلوا) وظاهر أنه لم يتقدم في البيت ذكر لفظ المرجع ولا ذكر معناه  .. أما من ناحية الحكم فلانومعنى الذكر حكما ألا يتقدم ما لا يدل على معناه ، ولا يتقدم لفظه صريحا أو تقديرا، ولكن يوجد نحو تقتضي الاضمار  قبل الذكر فيجعل المرجع هذه النكتة متقدما حكما كما يجعل المحذوف لنكتة كالثابت كما في قوله قل هو الله أحد. فإنه جعل مرجع الضمير هو الشأن من قبيل المذكور حكما لنكتة الاجمال والتفصيل ليتمكن في ذهن السامع. ومن الواضح لا يوجد في البيت نكتة لايراد الضمير قبل الذكر فكان تأليفه مخالفا للقانون النحوي.. بقي شرط اخر في فصاحة الكلام من. التعقيد بنوعيه اللفظي والمعنوي، ويقصد به خفاء المعنى على المتلقي مثل قول المتنبي :- جفخت وهم لا يجفخون بها بهم.   شيم على الحسب الأغر دلائل فالتقدير جفخت اي فخرت بهم شيم دلائل على الحسب الأغر وهم لا يجفخون بها .. أما من جهة المعنى فيكمن التعقيد في أراد الاستعارات والكنايات الملغزة التي تحتاج إلى طول تأمل مثل قول  الشاعر سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا   وتسكب عيناي الدموع فتجمدا .. أما المتكلم نفسه فاعتبر علماؤنا فصاحته ملكة يقتدر بها على إنشاء الكلام الفصيح في أي غرض كان كالمدح والهجاء والرثاء والنسيب وغيرها من المعاني التي تتأتى من خلال مطالعة كلام الفصحاء شعرا ونترا فضلا عن تدبر ايات القرآن الكريم وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم..