مدونة عبدالحكيم الأنيس


الإمام الرفاعي والوقت (1)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


27/06/2022 القراءات: 1197  


(قُدمت هذه الكلمة إلى "ندوة علمية متخصصة" في الجامعة الإسلامية ببغداد، عُـقدتْ في (25-27) من صفر سنة 1423 = (7-9) من أيار عام 2002)
***
مِنْ مواهب الله تعالى لعباده الموفَّقين معرفتُهم بشرفِ الوقت، ونفاستِه وقيمته، ولهذا تكون أعمارُهم حافلةً بجلائل الأعمال وإنْ لم تطلْ، وهذه نافذةٌ نُطِلُّ منها على تعامل إمامٍ ربانيٍ كبيرٍ مع الزمن، نرجو منها قدحَ عزائمنا، ونهوضَ هممنا، ذلك هو الإمامُ الفقيهُ العارفُ العابدُ المربِّي زاهدُ العراق السيِّد أحمد بن علي الرفاعي (ت: 578).
***
كان السيِّد أحمد الرفاعي قمة عالية في تعامله مع الزمن، وحفاظِه عليه، ومعرفتِه بقيمته، وتقديرِه لفاضله وأفضله..
والأمثلةُ على ذلك كثيرة، ذكرَها المترجمون له في كتبهم المفردة، أو في الطبقات والتواريخ.
يقول الإمامُ الجليل عبدالرحمن بن عبدالمحسن الواسطي محدِّث واسط (ت: 744) في كتابه: «ترياق المحبين في سيرة سلطان العارفين» - وهو من أوثق الكتب في هذا الباب-:
«وكان يشقُّ عليه تضييعُ نَفَسٍ من الأنفاس في غير طاعة الله، ولا يفرِّط في شيء من وقته، ويقول: مَنْ اشتغل بما لا يَعنيه فاته ما يُغنيه.
وكان يُنشد:
يا أيها المعدودُ أنفاسُه يوشك يومًا أنْ يتمَّ العدد
وكان في كثيرٍ من أوقاته يتأسَّف ويقول: قد بقي القليل».
ومِن أقواله:
الفقيرُ ابن ساعته لا ابن يومه.
الفقيرُ يرى كلَّ نَفَس من أنفاسه أعزَّ من الكبريت الأحمر، ويودِع كلَّ ساعة ما يصلح لها، ولا يضيع مِن وقته لحظة.
ويقول: الوقتُ سيف إن قطعته وإلا قطعك، والسعيدُ لا يهمل وقته.
وفي «سير أعلام النبلاء» أنَّه كان لا يأكل إلا بعد يومين أو ثلاثة أكلة.
وفي «الترياق» أنَّه كان يُحبُّ تعجيل الأكل، ويقول: هي حاجة أقضيها، وأرجع إلى حاجة أخرى.
وكان يأمرُ الفقراءَ بقراءة المسبعات بكرةً وعشية، ويقول: أنتم بلا شغل، وهذه بضاعةٌ سنية.
وكان يحذِّرهم الوسواس في الوضوء والطهارة. لما في ذلك من ضياع الوقت.
وكان يصرِفُ وقته دائمًا للأمور الفاضلة النافعة، ومن كلامه في ذلك:
«لو تكلَّم الرجلُ في الذات والصفات لكان سكوتُه أفضل.
ولو خطا مِن قاف إلى قاف لكان جلوسُه أفضل.
ولو أكل ملءَ بيتٍ طعامًا ثم تنفَّس نَفَسًا فأحرقه لكان جوعُه أفضل» كما في «بهجة الأسرار».
ولَعَنَ فقيرٌ إبليس - وهو يَسْمَعُ - فقال: أيْ مبارك، يكون عوض هذه: سبحان الله.
وقد سُئل خادمه يعقوب بن كراز عن أوراد السيِّد، فقال: كان يصلي أربع ركعات بألف (قل هو الله أحد).
ويستغفر كلَّ يوم ألف مرة، واستغفاره أن يقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، عملتُ سوءًا وظلمتُ نفسي وأسرفتُ في أمري، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفر لي وتُبْ عليَّ إنك أنت التواب الرحيم، يا حيُّ يا قيوم، لا إله إلا أنت. كما في «تاريخ الإسلام» و«طبقات الشافعية الكبرى».
وذكر خادمُه غيرَ ذلك، ولا بد أنَّ هذا من عبادته لا كلها.
وكان مِن حفظه لوقته تركُهُ الخصومةَ والمنازعةَ، والإقرارُ لِمن طالبه بشيءٍ، وقد جاء عنه في ذلك حكايا مدهشة.
وكان يُحافظ على واجب الوقت، قال الواسطي: «وكان لا يرى الاشتغالَ بشيء من الدنيا عند دخول وقت الصلاة: طَلَبَ مرة ماء ليشربه، فسمع الأذانَ فقال: حضرَ الحق وبطلَ حقُّ النَّفْس.
وهو كذلك يعرف فضلَ الأوقات: فكان إذا صلَّى صلاة الصبح جلس مكانه حتَّى تطلع الشمس.
ويقول: ما مِنْ ليلة إلا وينزل فيها نثار مِنَ السماء إلى الأرض، لا يَحصلُ له منه حصةٌ إلا مَنْ كان مستيقظًا. كما في «الترياق» و«الكواكب الدرية».
وقال لزوجته رابعة: أيْ بنت الشيخ: إنْ يسرك اللحوق بالقوم، فأقلِّي الطعام، واهجري المنام، وصلي بالليل والنَّاسُ نيام.
وكان يُوقظها بالليل ويقول لها: أيْ بنت الشيخ، قومي إلى وِرْدك، فإنَّ العبد إذا سلك طريق القوم كان قريبًا منهم.
وكان يُوصي الفقراء بقراءة الفاتحة وآية الكرسي في كلِّ يومٍ اثنتي عشرة مرة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، ويقول: هي الحافظات من الآفات.
ومِنْ وصاياه في حفظ الوقت قولُه للفقراء: «لا تضيعوا أوقاتكم فيما ليس لكم فيه راحة، فما يمضي منكم نَفَسٌ إلا وهو عليكم معدود، وإياكم وما تعتذرون منه، واحفظوا وقتَكم وقلوبَكم، فإنَّ أعزَّ الأشياء: الوقتُ والقلبُ، فإذا أهملتم الوقت، وضيعتم القلب فقد ذهبتْ منكم الفوائد…».
ويقول مذكِّرًا: «أفضلُ الطاعات مراقبة الحقِّ على دوام الأوقات».
ولهذا فإنَّه كان يُؤثر العزلة، ويقول: «ما لي مسرة إلا بالخلوة والوحدة، فيا ليتني لم أعرف أحدًا، ولم يعرفني أحدٌ».
وقد انتفع كثيرًا بكلمات قالها له الشيخُ عبدالملك الحَرْبَوي وهو صغيرٌ، ومنها قولُه: «يا أحمد، أول ما أقول: ملتفتٌ لا يصل، ومشكِّكٌ لا يفلح، ومَنْ لم يعرف مِنْ نفسه النقص فكُلُّ أوقاته نقص».
قال المناوي: ففارقه وجعل يكرِّرُها سنة.
وقد عاش وكُلُّ أوقاته أرباحٌ وغنائم حتَّى رحل إلى الله، وكان محافظًا على وقته حتَّى على فراش الموت، فهو يملأه بما يرضي الله تعالى عنه.
يتبع


الرفاعي. الإصلاح. التربية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع