العلوم الإنسانية: تحديات العلمية واليقين في عالم متغير
12/01/2025 القراءات: 206
تتجه المجتمعات الناطقة باللغة العربية أو التي تستعملها في نظمها التعليمية الى التشجيع على دراسة العلوم الحقة او المادية التي تهتم بدراسة المادة الحية والعضوية كالبيولوجيا والفزياء والكمياء وغيرها من العلوم التي ينظر اليها بأنها تقدم لنا حقائق يقينية يمكن تطبيقها والاستفادة منها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وهكذا نجد ميل النظم التعليمية والاسر والتلاميذ الى تشجيع هذه التخصصات العلمية والسعي الى التمكن منها قصد ولوج مهن مرتبطة بها كالهندسة والطب وغيرها، في حين ينظر الى العلوم الانسانية نظرة ريبة وتنقيص من قيمتها سواء من ناحية جدارتها العلمية واليقينية وكذا ما تؤهل له هذه العلوم من مهن للطلاب الذين يتخصصون في دراستها
ان العودة الى تاريخ العلوم الانسانية في مجتمعاتنا تؤكد أن هذه العلوم حديثة بالمقارنة مع الرياضيات وعلم الفلك والطب وغيرها من العلوم الحقة في حين كانت الظواهر الانسانية والاجتماعية رهينة بالفلسفة والعلوم الدينية بمختلف تفرعاتها، مما جعل بداية الاهتمام بالعلوم الانسانية مرتبط بالدراسات الكولونيالية أي تلك الدراسات التي دشنتها الدول الاستعمارية في طريق فهمها واستغلالها للمجتمعات المستعمرة، ولم يتم احداث هذه التخصصات العلمية (العلوم الانسانية) الا مع البدايات الاولى لبناء الدولة الحديثة بعد الاستقلال ونشأة الجامعات الحديثة
كان رهان الدولة الحديثة ينصب على امتلاك الامكانات العلمية التي تؤهل الراسمال البشري لمواكبة بناء الدولة الحديثة فكان النصيب الاوفر في هذا الرهان يتجه نحو البنى التحتية والحياة المادية لمواكبة التحدي الحضاري والاقتصادي لدول الشمال المتقدمة، أما المسألة الاجتماعية فقد ظلت مؤجلة أو حبيسة التجاذب الايديولوجي والسياسي المتارجح بين التراث والحداثة، على هذا الاساس تمت اعطاء الاولوية للبناء المادي وتم تشجيع العلوم الحقة في حين ظلت العلوم الانسانية تراوح المكان ويتم تغييبها في بعض الفترات من تاريخ الدولة الحديثة وتم حشرها ضمن الرؤية الاقصائية التي لزمت الفلسفة في ثقافة هذه المجتمعات، وما دام العلم يقيني في تصور ومخيال المجتمع فقد تم تصنيف ميزة النسبية التي تتميز بها العلوم الانسانية ضمن خانة الايديلوجيا الغربية وهو ما دفع بعض المتطفلين على العلم بصفة عامة الى الدعاية لبعض التصنيفات التي لا تستقيم في مجال العلم (الاقتصاد الاسلامي، علم الاجتماع الاسلامي أو العربي...) هذه النظرة ساهمت بشكل كبير في انحصار هذه العلوم وأعاق تطورها وبالتالي حدت من قيمتها العلمية والاجتماعية، وما يزيد من تعقيد المسألة هو رواج هذه النظرة حتى في بعض الاوساط الاكاديمية ضاربة بعرض الحائط ما تقتضيه الظوابط العلمية من صرامة علمية وموضوعية في البحث العلمي
إن الرهان الاجتماعي الذي يرفع من مكانة العلوم الحقة سعيا الى البناء العمراني والمادي يتغافل الدور الكبير للعلوم الانسانية بما هي مفتاح الفهم والتفسير للعديد من الظواهر الاجتماعية المستعصية والتي يمكن أن تكون القاعدة الاساس لبناء ولإعادة بناء المؤسسات الاجتماعية التي تعيش واقع التمزق والتفكك، ان الرهان الاول والاخير للعلوم الانسانية هو الانسان.
سوسيولوجيا، علم الاجتماع، المقاولاتية، التنشئة الاجتماعية، سوسيولوجيا التربية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة