مدونة د. طه أحمد الزيدي


الاستثمار النبوي في شهر رمضان (1)

د. طه أحمد الزيدي | Dr. TAHA AHMED AL ZAIDI


13/04/2022 القراءات: 1502  


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فإن من يطالع السيرة النبوية والسنة يجد أن حال النبي – صلى الله عليه وسلم –في رمضان ليس كحاله في بقية الشهور، فقد كان صلى الله عليه وسلم يستثمر مع الله تعالى في هذا الشهر بالطاعات والقربات، أكثر مما سواه لما علمه من ربه عن فضائل هذا الشهر وعظيم ما خصه به وكان عليه الصلاة والسلام يرتقي في الاستثمار كلما مضت أيام هذا الشهر، فمع اجتهاده في العبادة والطاعة في أيام رمضان ولياليه، إلّا أنّه كان يجتهد أكثر وأشد في العشر الأواخر منه.
ونحن حينما نتأمل استثمار النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان لنأخذ منه درسين عظيمين:
الاول: التأسي به والاقتداء بهديه، قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، (الأحزاب:21)، ولنستثمر مع الله بما استثمر فيه النبي عليه الصلاة والسلام الا بما اختص به، لأنه ما من خير الا ودلنا عليه وارشدنا اليه ورغبنا فيه.
الثاني: التحفيز على الاجتهاد بالطاعات، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – وإن غفر الله له ذنبه وأتم عليه نعمته (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) (الفتح:2)، إلا أنه كان أشد الأمة اجتهاداً في عبادة ربه وقيامه بحقه، وأداء لشكره، عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَصْنَعُ هَذَا، وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
اولا: كان صلى الله عليه وسلم يهيِّئ نفسه ويحفز أصحابه للاستثمار في شهر رمضان:
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا وَحَضَرَ رَمَضَانُ: (أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرُ بَرَكَةٍ، فِيهِ خَيْرٌ يُغَشِّيكُمُ اللَّهُ فِيهِ، فَتَنْزِلُ الرَّحْمَةَ، وَتُحَطُّ الْخَطَايَا، وَيُسْتَجَابُ فِيهِ الدُّعَاءُ، فَيَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى تَنَافُسِكُمْ، وَيُبَاهِي بِكُمْ مَلَائِكَتَهُ، فَأَرُوا اللَّهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مِنْ حُرِمَ فِيهِ رَحْمَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)، (رواه الطبراني في الكبير)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (هَذَا رَمَضَانُ قَدْ جَاءَ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، بُعْدًا لِمَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، إِذَا لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِيهِ فَمَتَى؟). رواه الطبراني في الأوسط.
ثانيا: الاستثمار بالوصال في الصيام وهو استثمار خصّ الله تعالى به النبي صلى الله عليه وسلم، فربما واصل الصيام يومين أو ثلاثة ليتفرغ للعبادة، ونهى أصحابه عن الوصال شفقة عليهم، فقد نقل عدد من الصحابة قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تواصلوا فأيّكم إذا أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر)، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله قال: (إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقين)، وفي رواية: فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ، فَقَالَ: (لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلَالُ لَزِدْتُكُمْ)، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا، رواه البخاري ومسلم.
فاللذة بالطاعة تستدعي الاستزادة منها واغتنامها، وليس انتظار قضائها واستعجال انتهائها، فلا يكون همّ أحدنا في رمضان متى ينقضي شهره، وإنما كيف يغتنم أوله وآخره.
ثالثا: الاستثمار بالإنفاق والجود
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَلْقَاهُ، فِي كُلِّ سَنَةٍ، فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) رواه البخاري ومسلم، فقد شبّه كرم النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بالريح المرسلة التي يدوم هبوبها ويعم نفعها، ولما تأتي به من الرحمة، وكثرة النفع، وهذا الحديث يبين ثلاثة درجات في استثمار النبي عليه الصلاة والسلام بالإنفاق والعطاء:
-استثمار متواصل طوال حياته، وهو أجود الناس بذلك وأكثرهم عطاء وهذا من كمال خلقه.
-زيادة الاستثمار بالإنفاق في شهر رمضان فهو أكثر جودا عما سواه من الشهور لاجتماع شرف الزمان مع شرف العبادة، وفي ذلك مُضاعفة للأجر.
-بلوغ أعلى مراتب الجود حينما يجتمع الضيفان (جبريل ورمضان)، جبريل يدارسه القرآن في رمضان، وحينها فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.
وقد ثبت شرعا مضاعفة الأجور في الانفاق وبذل المال في سبيل الله، قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) (البقرة:261)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف) قالوا: يا رسول الله وكيف؟ قال: (رجل له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، ورجل له مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف، فتصدق بها) رواه النسائي، هذا على وجه العموم فكيف الانفاق في شهر رمضان حيث مضاعفة الأجور.


الاستثمار في رمضان- المستثمرون- استثمار الاخرة- الاستثمار مع الله- الاستثمار النبوي


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع