مدونة الأستاذة الدكتورة / إيمان الجمل


الفن والتنمية المستدامة ، هل من صلة تربط بينهما ؟.

إيمان السيد أحمد الجمل | eman elsayd ahmad el gamal


30/10/2022 القراءات: 967  


من غير الجائز اعتبار الفنون إنتاجًا فكريًّا غير أساسيّ لأن كل عمليات الترقي والتنمية تهدف في الأساس إلى الإنسان وتتمحور حوله ، وإن كان الإنسان الفرد في المجتمع غير مهيأ حضاريًّا لاستقبال هذه المحاولات التي ترمي إلى ترقيته سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا فإن كل ذلك يذهب مع هبوب رياح المادية فقد أصبح الفنّ لصيق الصلة بحياتنا وسائر تفاصيلها فهو يحقق لها الجميل في كل شيء وبدون الجميل فالإنسان لا تتحقق له صفات الإنسانية وبدونه لا يكون ترقيًا ولا تنمية . فلا يجوز التفريق بين الفنّ وأساسيات الحياة واعتباره رفاهة لا أصلًا.
إن كل الأعمال الفنية المؤثرة الباعثة على التأمل والتفكير وتلك الأعمال الفنية التي تنبثق عنها أعمال أخرى أو تحرض العقل والروح على إنتاج أعمال أخرى هي فنون مستدامة ، وكل أعمال فنية هي باعثة على الإلهام لأعمال متجددة وتلك القادرة على تغيير الحياة وتحسينها فهي أعمال فنية مستدامة نستطيع أن ندرج وفقها أيّ صنف من صنوف الفنون قديمة أو حديثة يحمل مفهومًا ورؤية ذات أبعاد تدعو إلى جودة الحياة فكرًا وعملًا.
تهدف الفنون التعبيرية والبصرية إلى تحقيق المتعة والشعور بالجمال الذي ينعكس على الروح ويتغلغل فيها ، وانطلاقًا من هذا المفهوم فإنه يمكننا القول إن هذه المتعة وذلك الجمال هما في حد ذاتيهما تحقيق لدفع المتلقي لهما نحو الترقي بصورة مستمرة فيحصل منهما تنمية لذاته ومن هنا تتحقق المنفعة لديه ، وهذا هو واحد من أهم الآثار التي يتركها الفنّ في نفوسنا ويرقى لأن يكون على مستوى متساو ومتناظر مع التحصيل الجماليّ لاستقبال الفنّ أو ممارسته ، وهذا ما يؤوِّل إلى الارتباط الوثيق بين الفنّ بكل صنوفه وينشيء مقاربة مفهوماتية إلى فكرة التنمية المستدامة التي تنادي بها الاتحادات والهيئات والمنظمات العالمية .

يقول ألبرت آينشتاين ( لو لَم أكن فيزيائيّاً، مِنَ المُحتَمَل أن أصبِحَ مُوسيقيّاً، غالباً ما أفكّر بالمُوسيقى، أحلامُ اليَقَظةِ لَدِي مُوسيقى وأنظرُ إلى حَياتي بدلالَةِ المُوسيقى، أجمَلُ أوقاتي هِيَ تلكَ التي أقضيها بالعزفِ على الكَمَان). أعتقد أن مقولة العالم العبقريّ راية ترشد إلى أهمية الفنّ وأن النفع البشريّ لا يقتصر على العلوم البحتة أو كل ما هو ماديّ ، وإذا كان العالم ونحن منه قد اتجه إلى تغليب المادة على الروح فإنه حان الوقت إلى معرفة الجوانب المهمة للفنّ التي تتعدى حدود الذاتية لصاحبه .
لم يعد الفنّ في سائر صنوفه وأشكاله يهدف إلى التعبير عن الذاتية والتجارب الخاصة لأصحابه لكنه أصبح ممتزجًا بهموم المجتمعات وقضاياها معبرًا عنها ومقدمًا لها في صورر متعددة ، ومحققًا لفكرة المنفعة فلم يعد الفنّ للفن كما كان في السابق بل إنه غدا يحكم على قيمة الفنّ بحسب قدرته على تقديم أفكار جديدة ومعالجات حديثة تأخذ بيد المجتمع كاشفة عن مواطن ضعفه وقوته تنير وتبصر وتسعى إلى تنمية المجتمع شأنه في ذلك شأن سائر الاتجاهات الأخرى التي تقوم بالدور ذاته فالسياسة والاقتصاد والتعليم كل ذلك يهدف إلى ترقية المجتمع وتنميته وصولًا إلى المباديء التي وضعتها الأمم المتحدة للتنمية المستدامة والتي أصبحت الدول المتحضرة بمكوناتها الإدارية وطاقاتها الهائلة تعمل جاهدة على تحقيقها في مجتمعاتها بل وفي المجتمعات الفقيرة والنامية . فالفنّ تنمية وترقية لأنه بصورة بسيطة جدًّا لغة يفهمها ويتذوقها الجميع لغة عالمية لا تقتصر على شعب أو لسان .
وتعد جملة هذه المباديء ضرورة يجب العمل من أجل نشرها وترسيخها في كل المجتمعات البشرية والتي أعلاها : الحرية السياسية والفكرية والعقدية والمحافظة على الهوية والتراث وإدماج الشباب وذوي الاحتياجات الخاصة في حركة الحياة ومحاربة الفقر والجهل والمرض وكفالة الحياة الكريمة وحق المساواة بين الناس وتمكين المرأة من حقوقها وعدم التمييز باللون والجنس واللسان والعقيدة ، والسلام والأمن الاجتماعيّ والحفاظ على البيئة . كل ذلك أضحى في موضع عظيم الشأن ومن أولويات الحكومات في وقتنا المعاصر .
حين نتطرق إلى فكرة العلاقة بين الفنّ والتنمية المستدامة فإننا نتطرق إلى ذلك الدور المهم والنبيل الذي تقوم به الفنون في شتى أشكالها وأنواعها ووسائطها تأصيلًا للترقي المجتمعّ من خلال تلك الصلة القائمة بين الفنانين وبين مجتمعاتهم فما هم غير مترجمين لأفكارهم ومشاعرهم وآمالهم وأوجاعهم وهزجهم فهم أبناؤها الذين تربوا فيها واستقوا منها وامتزجوا بها إلا أن يكون الفنان اعتلى برجًا لا يجوز فيه النزول أو الصعود . فالفنّ الذي يقوم بدوره الحقيقيّ هو ذلك الذي يحقق تلك الفائدة كلٌّ بطرائقه وآلياته،عاملًا بذلك على تعزيز قدراتهم الروحية وإكسابهم مهارات تتضاعف ارتقاءًا عبر المراحل التعليمية وطرائقها، وإذا ما ساهم الفنان في تعليم طلابه فإنه يكون قد ارتقي بهم جماليًّا ولغويًّا وهذا الارتقاء يدعوهم إلى حسن التفكير والنقد ويمكنهم من إجراءاته والربط بين المفاهيم والقدرة على الاستدلال الصحيح مما يجعل المتعلمين أحسن دربة على الابتكار والتصور ، كل ذلك من شأنه أن ينمي من قدراتهم التي هي تنمية للمجتمع بخلق أفراد واعين مدركين يستطيعون تحسين مناخهم الحياتيّ والعمليّ، مما يعود على ذواتهم ومجتمعاتهم بالنفع والتقدم فلا تقدم ورقي بغير تنمية العقل ومكتسباته والروح وإحساسها بالصفاء والحرية والجمال الذي ينعكس على التعايش السلميّ والإخاء والعدل ، فيكون ذلك تعزيزًا للثقة بالنفس وشعورها بالطمأنينة وحب الحياة والعمل من أجلها، فيكون المتعلم بذلك مشاركًا في الترقي الحضاريّ لأمته ويكون الفنّ وأصحابه الذين نقلوه بذلك مشاركًين في تعظيم قيمته.


الفن- التنمية المستدامة - صلة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع