مدونة عبدالحكيم الأنيس


الإمام الغزالي في بغداد (1)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


14/03/2023 القراءات: 645  


تُرى كيف كان شعور الإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي (450-505) وهو متوجه إلى المدينة التي لم يكن لها "في الدنيا نظيرٌ في جلالة قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتميز خواصها وعوامها"؟
لا شك أنه شعور الواثق بنفسه، المعتد بعلمه، المتهيئ لدخول مركز الخلافة: قال أبو منصور الرزاز الفقيه: "دخل أبو حامد بغداد فقوّمنا ملبوسَه ومركوبَه خمس مئة دينار". ويختلفُ الأمرُ اختلافًا تامًا عند دخوله الثاني كما يشير إليه تمامُ قولِ الرزاز: "فلما تزهّدَ وسافر عاد إلى بغداد فقوّمنا ملبوسَه خمسة عشر قيراطًا"!
وُلد الغزالي بمدينة طوس، وفيها قرأ شيئًا من الفقه، ثم سافر إلى جرجان، ثم نيسابور، حيث لازم إمامَ الحرمين أبا المعالي عبدالملك الجويني (419-478)، وقرأ عليه مع إلكيا الهراسي، وأبي المظفر الخوافي، وعن الثلاثة قال أبو المعالي: "الغزالي بحر مغرق، وإلكيا أسد مطرق، والخوافي نار تحرق"!
وبعد وفاة إمام الحرمين توجَّهَ الغزالي إلى معسكر الوزير نظام المُلك "فأقبلَ عليه فوجدَه رجلًا فحلًا عظيمًا"، وقد "ظهر اسمُه في الآفاق، وارتفق بذلك أكملَ الارتفاق، حتى أدت الحالُ به إلى أنْ رُسِم للمصير إلى بغداد، للقيام بالتدريس بالمدرسة الميمونة فصار إليها"، وذلك في جمادى الأولى سنة (484)، "وأعجب به أهلُ العراق، وارتفعتْ منزلته"، ولم يكن له من العمر إلا أربع وثلاثون سنة، كما يقول ابنُ كثير، وعند الذهبي: "وسنُّه نحو الثلاثين"، وحضر عنده "رؤوس العلماء في ذلك الوقت، فكان ممَّن حضرَ عنده ابنُ عقيل، وأبو الخطاب، فتعجّبوا مِن فصاحته واطلاعه"، "واعتقدوه فائدةً ونقلوا كلامَه في مصنَّفاتهم"، "وعلتْ حشمتُه ودرجتُه في بغداد، حتى كان يغلب حشمة الأكابر والأمراء ودار الخلافة". ويبدو أنَّ جو بغداد راق له كثيرًا حتى "أخذ في تأليف الأصول، والفقه، والكلام، والحكمة" كما يقول الذهبي، وقد ألَّف في هذه المرحلة مؤلفات كثيرة إذ "نظر في علم الأصول، وكان قد أحكمَها، فصنَّف فيها تصانيف، وسبك الخلاف فحرَّر فيه أيضًا تصانيف".
وذُكر في "الطبقات العلية في مناقب الشافعية"، وفي "عقود الجوهر" (ص: 11) كتابٌ له بعنوان: "المسائل البغدادية".
***
أقام الإمام الغزالي على هذه الحالة: يدرِّس في المدرسة النظامية، ويلقي المواعظ، ويؤلِّف الكتب القيمة، ومِنْ ذلك كتابه: "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية " ، ويُعرف بـ "المستظهري"، ونقرأ في مقدمته (ص: 2) قوله: "‌إني ‌لم ‌أزلْ مدة المقام بمدينة السلام متشوِّفًا إلى أنْ أخدمَ المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية -ضاعف اللهُ جلالها، ومدَّ على طبقات الخلق ظلالها- بتصنيفِ كتابٍ في علم الدين، أقضي به شكرَ النعمة، وأقيمُ به رسمَ الخدمة، وأجتني بما أتعاطاه من الكلفة، ثمارَ القبول والزلفة، لكني جنحتُ إلى التواني لتحيُّري في تعيين العلم الذي أقصدُه بالتصنيف، وتخصيص الفنِّ الذي يقع موقع الرضا من الرأي النبوي الشريف، فكانت هذه الحيرة تُغبِّرُ في وجه المراد، وتمنعُ القريحة عن الإذعان والانقياد، حتى خرجت الأوامرُ الشريفةُ المقدسةُ النبويةُ المستظهريةُ، بالإشارة إلى الخادم في تصنيف كتابٍ في الرد على الباطنية".
ويتابعُ كلامه فيقول (ص: 4): "‌رأيتُ ‌المسارعة إلى الإذعان، والامتثال في حقّي من فروض الأعيان، إذ يقلُّ على بسيط الأرض مَنْ يستقلُّ في قواعد العقائد بإقامة الحجة والبرهان، بحيث يرقيها مِنْ حضيض الظنِّ والحسبان، إلى يفاع القطع والاستيقان، فإنه الخطبُ الجسيمُ، والأمرُ العظيمُ، الذي لا تستقلُّ بأعيانه بضاعةُ الفقهاء، ولا يضطلعُ بأركانه إلا مَنْ تخصص بالمعضلة الزباء، لِمَا نجمَ في أصول الديانات من الأهواء، واختلطَ بمسالك الأوائل من الفلاسفة والحكماء".
وقد جَعلَ الباب التاسع في "إقامة البرهان الفقهي الشرعي على أنَّ الإمام الحق في عصرنا هذا هو الإمام المستظهر بالله -حرس اللهُ ظلاله-".
والباب العاشر في "الوظائف الدينية التي بالمواظبة عليها يدومُ استحقاقُ الإمامة".
والمستظهرُ بالله هو أبو العباس أحمد بن المقتدي بالله عبدالله، وُلد في شوال سنة (470)، وبُويع له عند موت أبيه سنة (487)، وله ست عشرة سنة، وتُوفي في (16) ربيع الآخر سنة (512)، وعمره (40) سنة، و(6) أشهر و(6) أيام، وخلافتُه (24) سنة و(3) أشهر و(11) يومًا، وكان الأمرُ في عهده للسلاجقة، ولم يكن له من السلطان شيء.
وقال د. عبدالرحمن بدوي في مقدمة تحقيقه لهذا الكتاب (المستظهري) (ص: ي) موضِّحًا مهمة الغزالي في تأليف هذا الكتاب: "الغزالي في ردوده على الباطنية التي بدأها بكتابنا هذا إنما قصدَ أو قُصد له أنْ يناضل الباطنية مِن حيثُ المذهب، كما كان أمراء السلاجقة يكافحونها مِن حيث السلطان السياسي، وكان الغزالي على وعيٍ تامٍّ بخطر الباطنية على الإسلام، ولهذا كان هجومُه عليهم عنيفًا مخلصًا متحمسًا، بينما جاء الفصل التاسع ضعيفًا لا يتناسب في قوة حجاجه مع قوة حجاج الفصول الأخرى".
***
ثم وهو في هذه الحياة الرخية، والجاه العريض، أدركته عنايةٌ ربانيةٌ فأخرجته ممّا هو فيه إلى ما هو الخير له، وقد فصّل هذا في كتابه "المُنقذ من الضلال"، ومِنْ ذلك قوله (ص173-176):
"ثم لاحظتُ أحوالي، فإذا أنا منغمسٌ في العلائق، وقد أحدقتْ بي من الجوانب، ولاحظتُ أعمالي - وأحسنُها التدريس والتعليم - فإذا أنا فيها مقبلٌ على علومٍ غير مهمة، ولا نافعة في طريق الآخرة.
ثم تفكَّرتُ في نيتي في التدريس، فإذا هي غيرُ خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثُها ومحرِّكها طلبُ الجاه وانتشار الصيت، فتيقنتُ أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيتُ على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال. فلم أزل أتفكرُ فيه مدة، وأنا بعدُ على مقام الاختيار، أصممُ العزم على الخروج مِن ‌بغداد ومفارقة تلك الأحوال يومًا، وأحل العزم يومًا، وأقدِّم فيه رجلًا وأؤخر عنه أخرى. لا تصدقُ لي رغبةٌ في طلب الآخرة بكرةً، إلا ويحملُ عليها جلد الشهوة حملةً فيفترها عشيةً.


الغزالي. بغداد. التزكية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع