مدونة مسعد عامر سيدون المهري


السمة الشمية في التصوير الفني في معلقة امرئ القيس

مسعد عامر سيدون المهري | Musaad Amer Saidoon Almahry


10/03/2022 القراءات: 976  


تتوزع الصورة الشعرية لتشمل مكونات الإدراك الحسي فإذا بها تدرك ذهنيا وتتمثل خياليا بواسطة منافذ حسية تجسد فيها الشعور والعاطفة ويسكي فيها الخيال من فيضه فيغدو التصوير الفني فيها بارزا ماثلا مجسدا للدلالة وتكوينها العاطفي . وحاسة الشم من أعظم الحواس التي تتجسد فيها
قوة الدلالة .. وتصور المعنى .. فحين توصف المرأة بالحسن والصفاء والنقاء ..تضيف حاسة الشم بما فيها من روائح عتيقة تأنس لها الأنف وتلذ النفس يقول امرؤ القيس:

كذابك من أم الحوريث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل
اذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريح القرنفل

فالفعل تضوع يصور دقة حركة العطر وانتشاره في الهواء ليصل إلى أنف المتلقي، فليفت نظره إلى الممدوح أو المتغزل بها .. وتعطيه صورة حسنة مقبولة عنها .. ونلاحظ هنا قوة التصوير إذ شبه ريحها في طيبه وشدة أثره بطيب نسيم هب على قرنفل وأتى بريّاه. فهذه الصورة من الصور المحفزة للتقرب من المرأة . فهذه الصورة نسوية ضمخت بالعطر ورحت بالقرنفل حتى تضوع الجو واعتبق.
الصورة الأخرى قوله
وتُضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
يقول تصادف العشيقة الضحى ودقاق المسك فوق فراشها الذي باتت عليه . وهنا في هذا البيت صورة حسية مزدوجة تبرز جمال ودلال الحبيبة . التحليل يظهر نصفها الأول الذي هو بصري (فتيت المسك المتناثر فوق فراشها) ونصفها الآخر شمي ( فتيت المسك الذي يوجد له عبق وشذى ينبعث من ذلك الفراش الذي كانت تضحى عليه تلك المرأة المنعمة النائمة)
ودقة الصورة هنا تكشف عن " صورة نسوية مثيرة للرجل لذيذة للنفس وتنشأ عن الشم قبل النظر . فكأن فتيت المسك حين يجرد من حاسة البصر يغتدي هو أيضا مماثلا (أيقونة) إذ أننا نستطيع بواسطة الشم ان نستميز ذفر العطر وعبق الشذى . وربما دلنا على طبيعة المادة المقطرة أو المستخرج منها كشمّنا على هذا العهد عطرا أنيقا راقيا فنعرف الدار التي صنعته دون أن يدلنا على ذلك إلا حاسة ضمنا. وصدق تجربتنا ورفعة ذوقنا. ففتيت المسك بالقياس إلى الأعمى وبالقياس الى البصير الذي لم يتمكن من رؤيته لقى على الفراش يغتذي حتما مماثلا (إقونة) في هاتين الحالتين؛ فإذا هو سمة شمية حاضرة ( العبق المنتشر إلى نحو حاسة الشم) دالة غائبة (طبيعة العطر ومادته)
وكأن امرؤ القيس لم يكن يرتضى إلا المرأة المعطرة المضمخمة والمشوبة بالمسك المعتبقة. وكأن ذلك المجتمع كان بلغ من التطور والتحضر والتنعم والترهف ما يجعله يضاهي أي مجتمع آخر في بعض العصور التالية.
وإلا فما بالنا ونحن نقرأ تلك الابيات، التي تضوع عطرا، ونشمه ونتحسس موطن اللذة فيه، فيمثل التكوين الحسي والشعوري متجسدا في عوالمنا النفسية والوجدانية ما يدفعنا إلى تخيل المشاهد والصور والأحداث التي يقدمها الشاعر على خارطة معلقته، وتتمثل أمامنا أولئك النسوة الموصوفات بهذه النعوت، فيتمثل ما تحيه من العبق والشذى والريا والقرنفل، وفي هذه الصور الفنية التي تستثمر الحس والشعور، أقوى دافع لتذوق الشعر والتمتع بما فيه من عوالم جميلة تربط الذهني بالحسي، وذلك ما يجعلنا نتمتع بالشعر كما نستمتع بشم العطر ونتلذذ بالقول كما نتلذذ بالتنسم، فيستهوينا جمال الشعر كما يستهوينا جمال النساء.
فكأن الصورة الشعرية لدى امرئ القيس حين تتمخض للنساء تغتدي مضمخة معطرة. فإذا أنت لا تلتمس الجمال الفني في إيقاع الشعر وحده وهذا أمر قليل السمة الصوتية . ولكنك تلتمسه أيضا في جمال العطر وأناقته، وهذا شأن يتمخض للسمة الشمية .


المعلقة ، الصورة ، الشم


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع