مدونة سعد رفعت سرحت


ريق الشمس ومخاطها،خيال الجماعة والتأليف بين الديني والشعري

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


23/07/2022 القراءات: 623  



يقال لخيوط الشمس عندنا اليوم:نخرة الشمس،أي مخاطها،وهذه التسمية تكاد تغلب على غيرها في المجتمع العراقي ولا علم لي إنْ كانت تسمى بأسماء أخرى في المجتمعات العربية الأخرى،والعرب قديمًا أطلقتْ عليها مجموعة من الأسماء:ريق الشمس،لعاب الشمس، خيط باطل،مخاط الشمس،و الأسماء بطبيعة الحال قد تعكس تصورات الجماعة إلى حدّ بعيد،فهذه الأسماء تستند إلى ثلاثة تصورات:

١_مخاط الشيطان، يستند الى تصوّر ديني.
٢_ ريق الشمس ،يستند إلى تصوّر شعريّ.
٣_خيط باطل،يستند الى تصور واقعي، فهو يكاد يكون منطقيًّا،لأنّ خيط باطل((يُشبّه به ما لا حاصل له ولا طائل فيه)) كما يقول الثعالبي.


كان(إي_ب_تايلور)وهو يتحدث عن فكرة البقايا الثقافية قد أشار الى استمرار البدائي في حاضر الجماعات البشرية،وعند هذا توقف عند مرحلة مرّ بها الإنسان سمّاها ب(المرحلة الأنيميّة) و تعني الأنيمية نمطًا من أنماط التفكير الأصليّ عندما كان الإنسان يتصوّر كلّ ما في الكون كائنات فيها روح.


و الأنيمية ضرب من الإسقاط يمكن لحظه لدى الأطفال وهم يرون الأشياء والجمادات كما لو كانت كائنات حيّة، فيخلعون عليها صفة بشرية أو حيوانية،على أنهم في الغالب الأعم يخلعون عليها مشاعرهم فيقومون بأنسنتها،وبناءً عليه فإنّ الأنيمية تُحيل على ماضي الشعوب وطفولتها وفق سلّم التطور.


و المراد بالبقايا الأشياء و العادات و الأفكار و السلوكيات التي كانت موجودة و مطبقة في المجتمعات القديمة ،و ظلت مستمرة في المجتمعات الحديثة و المعاصرة ،إلا أنها تطورت و لم تبق كما كانت عليها قديما،إذ طرأت عليها تغيرات


وقد تبنى(إدوارد تايلر)مفهوم البقايا الحضارية ،ليكون أداة تأكيد على استمرار الحياة الأوليّة في حاضر الشعوب ،ولكنها قد مُنِيتْ بضروب من التحريف،وكلّ ذلك خاضع عند تايلور وتلامذته لخطّ تطويري يبدأ من الأدنى إلى الأعلى ...


والحقّ أنّ ما يُستشفّ من الأنيميّة_بل من فكرة البقايا برمتها_ هو الكشف عن الرؤية الأولية للجماعة و مدى احتفاظ ذاكرة الأمم بهذه الرؤية،ليكون ذلك مدخلًا يشرع من خلاله توزيع الجماعات والأمم في مسرد التطور،فالجماعات التي تتغيّر تصوراتها عن الأشياء نحو الأفضل لا شكّ أنها متقدمة،وبخلاف ذلك إذا ما حافظت الجماعة على ذاكرة أسلافها فإنّها تكون موضع إدانة.


لا شكّ أنّ خيال الجماعة تعاملت بانتقائية مع كلّ ما يُبعث من الشمس،فما كان من الشمس جليلًا تناوله خيال الجماعة وفقًا لمشاعر الخوف والازدراء فتصورته الجماعة بإجلال وإكبار ، وفي المقابل ما كان منها جميلًا تناوله هذا الخيال وفق مشاعر السرور والبهجة فتصورته الجماعة تصورا جماليًّا،وبين كلا التصوّرين يخمد خيال الجماعة فتلجأ إلى الواقع أو تقترب منه،وهذا ما يظهر بشكل واضح في التسميات الثلاث التي مرّ ذكرها.


ليس بجديد أنّ مجموعة من المجتمعات القديمة كانت تتصوّر خيوط الشمس مخاطًا للشيطان، وكانّها كانت تستبعد أنْ يصدر عن الشمس غير الأشياء العظيمة ،فعرفت لديها هذه الخيوط ب(مخاط الشيطان) وهو في رأيي تصوّر ديني مريض،لأنّ التصوّرات الدينية الزائفة في كثير من الأحيان تشوّه الأشياء، إذ تضفي عليها مشاعر الأزدراء أوالخوف من دون داعٍ يدعو لذلك.


أمّا العرب فتراهم قد أساؤا التصور حينًا وهم يحتفظون بهذه الذاكرة الدينية السيئة عندما احتفضوا ب(مخاط الشيطان)،و في المقابل تراهم أحسنوا التصوّر حينا آخر عندما فعّلوا خيالهم الشعري فقالوا عنها لعَابُ الشَّمْسِ أو ريقها،وتعرفون ما تحمله كلمة (ريق) من لطف و من ألق،يكفي أن نشير إلى قصائد الغزل و ما تحتويه من تشبيه رضاب الحبيبة بالعسل و بالخمرة المسكرة،و كذا فقد أحسنوا حين قاربوا الواقع فقالوا عنها(خيط باطل)،وقد أشارت أمّهات الكتب إلى هذه الأسماء مستشهدة بأبيات ،كقول النابغة:

يثرْنَ الثّرى حتى يباشرنَ بَردَه
إذا الشّمسُ مجّتْ ريقَها بالكَلاكلِ

وقول جرير:
أنِخْنَ لتهجيرٍ وقد وقَد الحصى
و ذابَ لُعاب الشمسِ فوق الجماجمِ

وقول أحدهم في هجاء مروان بن الحكم ،إذ كان طويلًا مضطربًا،فشبّه بخيط باطل:
لحا الله قومًا أمّروا خيط باطل
على الناس يعطي من يشاء ويمنعُ


أمّا تسمية هذه الخيوط ب(مخاط الشمس_ خنتة الشمس) فقد يدلّ على أنّ الخيال الشعبي دأبًا يؤلّف بين الديني والشعري،فبينما أخذ عن التصور الديني جانبه المقزّز (مخاط) ونبذ جانبه المخيف(الشيطان) نراه استعاض عنه بالتصور الشعري(الشمس)ليخرج باستعارة مقزّزة (خنّة الشمس).


ومّا يؤسف عليه،هنا،أنّنا ليس بإمكاننا أن نسأل: لِمَ لم يبق الخيال الشعبيّ على ذاكرته الشعريّة ليحتفظ ب(ريج الشمس)؟!.


خيوط الشمس ريق مخاط خيال الجماعة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


مقال رائع به العديد من المعلومات المفيدة وكذلك وجهة نظر رائعة للمؤلف جزاك الله خيرا