مدونة الدكتور عمر محمد جبه جي


النظر في مآلات الأفعال وأثره في الفتاوى المفتين ، وأحكام القضاة والمجتهدين .

عمر محمد جبه جي | Omar Jabahji


23/08/2019 القراءات: 4278  


النظر في مآلات الأفعال وأثره في الفتاوى المفتين ، وأحكام القضاة والمجتهدين .
مبدأ النظر في المآلات: ( هو تكييف الفعل بالمشروعية أو عدمها في ضوء نتيجته المترتبة عليه وفق سنن التشريع ).
للنظر في المآلات شواهدٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم نذكر منها ما يلي :
من ذلك قوله تعالى: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علمٍ )(الأنعام: ١٠٨).
سب آلهة المشركين ربما يراه البعض جائزاً لما فيه من إهانة الشرك ونصرة الحق، إلا أن الشارع الحكيم لم يقف نظره واعتباره عند هذه الغاية القريبة، بل نظر إلى نتيجة هذا العمل المشروع، وما سينتج عنه من آثارٍ غير مشروعةٍ، فقضى بتحريم سب الآلهة سداً لذريعة سبهم لله تعالى انتقاماً لآلهتهم، وانتصاراً لباطلهم
ومن ذلك قوله تعالى على لسان الرجل الصالح صاحب موسى عليه السلام : ( وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كل سفينةٍ غصباً ) ( الكهف / 79) .
إن الاعتداء على ملك الغير بغير حقٍ من الأمور المحظورة شرعاً، لكننا رأينا الخضر عليه السلام يهوي على السفينة بالخرق الذي هو في ظاهر الحال تعييبٌ، وإلحاق الخسارة بأهلها، ولما عاب موسى عليه السلام عليه ذلك وذكره بالجميل الذي أسداه إليهما أهل السفينة، بين له أن المفسدة لم ترتكب إلا لما فيها من دفعٍ لمفسدةٍ أعظم وهي غصب السفينة وذهابها جملةً، حيث أن وراءهم ملكٌ يأخذ كل سفينةٍ صالحةٍ غصباً.
كما أن للنظر في مآلات الأفعال الكثير من الأمثلة في السنة والسيرة النبوية نذكر منها قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "يا عائشة لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِى الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ"
إن هدم الكعبة وإعادة بنائها على أسس إبراهيم عليه السلام مصلحةٌ، ولكنه قد اعترض بمفسدةٍ أكبر وهي فتنة القوم ونفورهم وذلك لحداثة عهدهم بالجاهلية والشرك، ولاعتقادهم أن ذلك جرأة على الكعبة واعتداء على حرمتها، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدي ذلك إلى نفور الناس أو ارتداد بعضهم عن الإسلام، لأن الناس كانوا يعظمون الكعبة في الجاهلية والإسلام، فقد لا يتحملون أن يروها تهدم، وقد لا يفقهون ما يرمي إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من إعادة البناء.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقطع الأيدي في الغزو )
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : ( فهذا حدٌ من حدود الله تعالى ، وقد نهى عن إقامته في الغزو ، خشية أن يترتب إليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره ، من لحوق صاحبه بالمشركين حميةً وغضباً ..... وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحةٍ راجحةٍ إما من حاجة المسلمين إليه ، أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار .
وهذا الموضوع مهمٌ جداً لكل مُوَقِع ٍعن الشرع الحنيف ، ذلك أن الاجتهاد في إعطاء تصرفات المكلفين أحكاماً شرعية ً يحتاج إلى نظرٍ إلى نتائج هذه التصرفات وعلى ضوء هذه النتائج يحكم المجتهد بمنع التصرف أو السماح به ، وذلك بعد موازنةٍ دقيقةٍ بين المصالح والمفاسد الناتجة عن تلكم التصرفات .
وبالأخذ بهذا المبدأ يضع المجتهد الأحكام في مواضعها الصحيحة ، حتى تحقق الغاية العظمى التي من أجلها أرسل الله الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم وهي: تحقيق السعادة البشرية في الدارين، وبه تظهر صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمانٍ ومكانٍ ولكل الأفراد والجماعات، إذ إن الأمر قد يكون مشروعاً لمصلحةٍ، ولكنه يؤول إلى مفسدةٍ أعظم من مصلحته ، كما قد يكون محظوراً ولكنه يؤول إلى مصلحةٍ أعظم من مفسدته .

و يجب على المجتهد كذلك مراعاة تأثير الواقع والأحوال والظروف أو القصود ، فقد قرر العلماء أن الحكم يقدر زماناً ومكاناً وشخصاً ونتيجةً ، و اعتبار المآلات يحتاج إلى معرفة الزمان والمكان والأشخاص و الوقائع لكي يتأتى للمجتهد تقدير مآلات الأفعال وآثار الأحكام عليها ، فالأحكام الاجتهادية تتغير بتغير الواقع و أحوال الزمان والمكان ، وعلى المفتي والمجتهد أن يكون محيطاً بفقه الواقعة ، بصيراً بما يوجب تغير الحكم ، مراعياً حال الزمان وأهله ، فإن المآلات التي تفضي إليها الأفعال تتبدل بتبدل الواقع والحال ، فيجب على المجتهد أن يكون مدركاً للواقع فقيهاً به .
كما أن هذا البحث مهمٌ للدعاة إلى الله فالداعية بحاجةٍ لمعرفة أثر دعوته على المدعويين ، فيختار لكل أناسٍ الأسلوب المناسب لحالهم ولبيئتهم الاجتماعية والثقافية والعرفية ، فقد يكون أسلوبٌ من الأساليب مفيداً لجماعةٍ يقربهم من الدين ويرغبهم في الالتزام بتعاليمه ، بينما ينفر آخرين ويبعدهم عن هدى الله ، لذلك على الدعاة الانتباه لتصرفاتهم فلا يكيلوا الناس بمكيالٍ واحدٍ ولا يخاطبوهم خطاباً واحداً ، بل يتفننوا بالأساليب ، ويخاطبوا الناس على قدر عقولهم وثقافتهم ، و يراعوا نتائج تصرفاتهم ووسائلهم .


بحث فكري فقهي


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع