مدوّنة الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب القباطي


التّكامل بين العلوم النّقليّة والعقليّة (1)

الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب | Associate Professor Dr. Muneer Ali Abdul Rab


02/05/2022 القراءات: 1489  


ورد في معاجم اللّغة معنى الكمال والتّكميل والتّكامل والإكمال والاستكمال، وهي معانٍ لا تختلف عن بعضها؛ (فالْكَمَالُ): التَّمَامُ، وَ (التَّكْمِيلُ) وَ (الْإِكْمَالُ): الْإِتْمَامُ. وَ (اسْتَكْمَلَهُ): اسْتَتَمَّهُ(Ar Razi, 1999) . وتكاملتِ الأشياءُ: كمَّل بعضُها بعضًا وأتمّه، بحيث لم تحتج إلى مايُكمِّلها من خارجها(Ahmed Mukhtar, 2008) . والمعنى الاصطلاحي للتّكامل المعرفيّ لا يخرج عن المعنى اللّغوي؛ فيراد بالتّكامل المعرفيّ بين العلوم: تكاملها في كلّ مجالات المعرفة؛ سواء أكانت شرعيّة أم طبيعيّة أم اجتماعيّة أم إنسانيّة، والّذي يتحقّق بدمج بعضها مع بعض. فهذه العلوم بينها علاقة، تربط بعضها ببعض؛ بحيث لا يستغنى منها علم عن غيره، لكن تبقى العلوم الدّينيّة هي الأصل المقصود لذته، والعلوم الحياتيّة هي الفرع، الخادم للأصل، وسوف نعرّج على أقوال العلماء في ذلك.

قال الإمام ابن تيميّة: "إنّ جميع العلوم ضروريّة باعتبار أسبابها، فإنّ العلم الحاصل بالنّظر والكسب والاستدلال هو بعد حصول أسبابه ضروريّ، يضطرّ إليه الإنسان، وهذا اختيار أبي المعالي وغيره" (Ibnu Taimiyyah, 1411). وقال الإمام الغزالي: تنقسم العلوم إلى شرعيّة وغير شرعيّة، وأعني بالشّرعيّة ما استفيد من الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه-، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التّجربة مثل الطّبّ، ولا السّماع مثل اللّغة، فالعلوم الّتي ليست بشرعيّة تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم وإلى ما هو مباح، فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدّنيا كالطّبّ والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة، أمّا فرض الكفاية فهو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدّنيا كالطّبّ، إذ هو ضروريّ في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب فإنّه ضروريّ في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم الّتي لو خلا البلد عمّن يقوم بها حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين، ولا يتعجّب من قولنا إنّ الطّبّ والحساب من فروض الكفايات؛ فإنّ أصول الصّناعات أيضًا من فروض الكفايات، كالفلاحة والحياكة والسّياسة بل الحجامة والخياطة، فإنّه لو خلا البلد من الحجّام، تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك، فإنّ الّذي أنزل الدّاء أنزل الدّواء وأرشد إلى استعماله وأعدّ الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التّعرّض للهلاك بإهماله، وأمّا ما يعدّ فضيلة لا فريضة، فالتّعمّق في دقائق الحساب وحقائق الطّبّ وغير ذلك ممّا يستغنى عنه، ولكنّه يفيد زيادة قوّة في القدر المحتاج إليه ((Al Ghazali, n.d, 16.

فيرى الإمام الغزالي أنّ العلوم الدّنيويّة إذا تعلّقت بها مصلحة، فهي مباحة ومحمودة، فذكر منها الطّبّ والحساب والفلاحة والحياكة والخياطة والحجامة، وتقاس عليها الهندسة والكيمياء والفيزياء، وكلّ علم دنيويّ يرجى من تعلّمه حصول مصلحة ومنفعة للنّاس، فإذا لم تتعلّق به مصلحة، فهو مذموم، كتعلّم السّحر والكهانة، وما شابه ذلك.

ثمّ ذكر الإمام الغزالي أنّ هناك علاقة بين هذه العلوم وعلوم الدّين، حيث إنّها مرتبطة مع بعضها البعض، فقال: "العلوم متعاونة، وبعضها مرتبط ببعض"((Al Ghazali, n.d, 51. وذكر الإمام ابن حزم في "رسائله" (Ibnu Hazm, 1983) أنّه لابدّ أن يعرف من الحساب ما يعرف به القبلة والزّوال إلى أوقات الصّلوات، ولا يوقف على حقيقة ذلك إلّا بمعرفة الهيئة، ولا يعرف حقيقة البرهان في ذلك إلّا من وقف على حدود الكلام، ولا بدّ أن يعرف من الحساب أيضًا كيف قسمة المواريث والغنائم، قال: فإنّ تحقيق ذلك فرض لا بدّ منه، ولا بدّ في الشّريعة من معرفة العيوب، كعاهة الجنون، وقوام الآفات والأدواء، ومعرفة العلل ومداواتها يكون بتعلّم الطّبّ. ثمّ أكّد تعلّق العلوم بعضها ببعض، وافتقار بعضها إلى بعض، وبيّن إن لم يتمكّن المرء الإحاطة بجميعها، فليضرب في جميعها بسهم ما، وإن قلّ، وليكن النّاس فيها في تعاونهم على إقامة الواجب من ذلك عليهم كالمجتمعين لإقامة منزل، فإنّه لا بدّ من بنّاء وأُجراء ينقلون الحجر وينقلون الطّين، ومن صنّاع القرمد - كلّ ما طُلي به كالجصّ والزّعفران- وقطّاعي الخشب وصنّاعي الأبواب والمسامير حتّى يتمّ البناء، وكذلك سائر ما بالنّاس الحاجة إليه من الحرث، فإنّه لا يتمّ إلّا بالتّعاون على القيام بآلاته والعمل بها.


التّكامل، العلوم النّقليّة، العلوم العقليّة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع