مدونة سعد رفعت سرحت


الصعلكة والتّصوف،عن تائية الشنفرى بوصفها بيانًا صوفيًّا

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


26/06/2022 القراءات: 617  




لا أخفي عليكم أنّ وحدة البحر و القافية تحرّض على هكذا قراءة،فتائيات المتصوفة عبارة عن بيان واحد يتمدّد ويعاد صياغته على مرّ الزمن، على أنّ ما أثارني حقًّا في قصيدة الشنفرى قوله:


فدقت وجَلَّتْ واسْبَكَرَّتْ وأُكْمِلَتْ
فَلْوْجُنَّ إِنسانٌ من الحُسْنِ جُنَّتِ


إنّ إلحاح الشنفرى في هذا البيت على أوصاف "الكمال الأنثوي" شدّني بقوّة إلى "الأنثى الكونية"التي تحدّث عنها أدونيس وهو يقرأ شعر جميل بن معمّر في الثابت والمتحول،وجد أدونيس أنّ جميل رأى في صورة بثينة التجلّي الأسمى للألوهية الخالقة على ما سيفعل ذلك ابن عربي في فتوحاته،فقد كانت بثينة في كيان جميل كلّ شيء،ومنه تحوّل حبّه من بثينة إلى حبّ ذاته التي أصبحت بمثابة الكون كلّه.


إنّ أشياء كثيرة في قصيدة الشنفرى يقوّي العزم على هذه القراءة، فعلى أقلّ تقدير لا يسعك_وانت تراه يستفتح تائيته ب"أمّ عمرٍو"_إلّا أنْ تتذكر حديث ابن عربي عن المذكّر بوصفه وسطًا بين أنثيين،و أنّ الأنثى هي الأصل ،ومن ثمٍ كان كلّ ما هو أصل يسمى في العربيّة أمًّا.


غير أنّ الجمع بين الصعلكة والتصوّف قد يثير ضروبا من الاعتراض،فشتان ما بين الصعلكة بوصفها سلوكًا مفعمًا بالعدوانية و اللصوصية والشطارة تجاه الحياة، وبين التصوف الذي هو موقف اخلاقي يجانب كلّ ما يثير الحفيظة بل يرتبط إحساس المتصوف دأبًا بالسلام المطلق كما يقول برتراند راسل ،ولكن سرعان ما يجد هذا الجمع قبولًا حين تُعرض المسألة على الفكر ،و ذلك لأنّ كلّ مجتمع بفروضه وإلزاماته هو المسؤول والمحدّد للصواب والخطأ. إنّ بنية المجتمع وطبيعته هما اللتان تحدّدان السلوك،و عندئذٍ ليس منطق الجماعة سوى الترابط الذي ترتضيه الجماعة و تسعى لأن تتطابق معه الأفراد،و هكذا فالأعراف الاجتماعية _كما يقول سمنر_هي الصواب،فما كان جمعيًّا هو بالضرورة منطقي لأنّه يستند إلى تسويغ،وفي المقابل ما كان شخصيًّا هو بالضرورة غير منطقي لأنه يفتقر إلى تسويغ.


وإلى ذلك يشترك المتصوفة مع الصعاليك في النزوع الفردي والغرابة والخروج على الأطر الاجتماعية ،فكلتا الجماعتين خرجتا عن الاعراف و جانبتا منطق الجماعة،لأنهما ارتضتا أعرافًا خاصة،و أعادتا تشكيل رؤية ذوقيّة_لا عقليّة_ عن الخطأ والصواب ،وقد واجه كلتا الجماعتين ضروبًا من العنت والتنكيل من المحافظين رمزيًّا وماديًّا، فما لقيه الصعاليك من قبائلهم هو ذاته ما يلقاه المتصوفة فيما بعد من تنكيل على يد السلطة.


ومن المؤسف أنّ الجانب الذوقي من حياة الصعاليك لم ينل حظّّه من العناية،فالنظرة الشائعة ترى في التصوّف ثورة روحية،و لكنها في المقابل ترى الصعلكة ثورة جياع فتغلب فيه الرؤية المادية،والحقّ أنّ قيمًا وسلوكيات كثيرة في حياة التصوف تستدعي بوضوح حياة الصعاليك،ومن يتأمل أدبيات التصوّف يلمح لا محالة حالة الوئام بين الصعلكة والتصوٍف.


إنّ الخطاب النقدي الحديث ركّز على الشعر العذري و عدّه النصّ الغائب في أدبيات التصوف ولا أدري لمَ أهمل شعر الصعاليك؟.ففي أدبيات التصوف أشياء صريحة تدلك على أنها قراءة ضاغطة لأشعار الصعاليك و أنّها حوار كثيف لقيم الصعلكة.


ما تقدّم يشجع على القول بأنَّ تائيات التصوّف حاشية تحت تائية الشَّنفرى،فلعلّ المتصوفة لحظوا فيها أشياء تناسب قلقهم وتشبع فضولهم.


وللبقية حديث







الصعلكة والتصوف_تائية الشنفرى


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع