جدلية التريف والتحضر ومحكّات التمييز بين الريف والحضر
سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat
24/11/2022 القراءات: 1057
التحضر: هو عملية تحول سمات و خصائص المجتمع المدني إلى حياة الريف و أهله.وفي المقابل التحضر يوجد التريّف الذي هو عملية اكتساب المدن سمات وخصائص المجتمع الريفي..
إن عملية انتقال المجتمع من أنماط الريف إلى أنماط الحضر ،لا تعني مجرد الهجرة و الانتقال من حالة اجتماعية إلى أخرى ،و إنما تعني انتقال السمات و الخصائص المدنية إلى المجتمع الريفي ،الأمر الذي يحتاج فيه الأفراد إلى عمليات معقّدة من التكيف الاجتماعي و الثقافي،لأنّ عملية التكيف صعبة جدا ،فمن الصعب جدا أن يتأقلم أهل الريف في المدن و أن تتلاءم ثقافتهم مع ثقافة المدن ،و عندئذ لا بد من قيام صراع ثقافي بين الاثنين ،بحيث يفرض فيه كل طرف نموذجه الثقافي،فإذا انتصرت ثقافة المدينة و فرضت ثقافتها في نفوس أهل الريف تحصل عملية التحضر.أما إذا انتصر الريف و فرض الريفيون نموذجهم الثقافي على حياة المدينة، عندئذ تحصل عملية التريف.
فالمسألة ،إذن،خاضعة للجدل الذي معه يُصعب وضع محكات للفصل بين أنماط الريف وأنماط المدينة، والمقصود بالمحك:ذلك المعيار الذي به نميز بين شيئين أو واقعين.
وفي النظرية الاجتماعية ظهرت ثلاث محكات عدّها الاجتماعيون خطوطًا فاصلة بين الريف و المدينة ،يمكن اجمال هذه المحكات بما يأتي:
#أولا:محك الثنائيات//استندت مجموعة من النظريات إلى (فكرة الثنائيات )للتمييز بين الريف و المدينة ،وهذه الثنائيات هي عبارة عن مقابلة بين نموذجين : نموذج يمثل المجتمع الريفي و نموذج يمثل المجتمع المدني ،و من بين هذه الثنائيات ثنائية دوركايم (التضامن الآلي و التضامن العضوي)،و ثنائية تونيز(اللكامنشفت و كاسلشفت)،و ثنائية هنري مين (المكانة و التعاقد)........إلخ.
وممّا يبدو في هذا المحك أنّه لا يختلف عن المحك الذ وُضِع للتمييز بين البدائي والمتقدم .
#ثانيا :المحك الواحد//سلك علماء الاجتماع طريقا آخر للتمييز بين الريف و المدينة و تركوا فكرة الثنائيات، و قد تبنى بعضهم فكرة (المحك الواحد)الذي يميز بين الريف و المدينة ،وأن من ذلك (محك الحجم)أو (محك المكان)أو (محك المهنة ) و هذا المحك الواحد هو أساس التصنيف أو الفرق بين الريف و المدينة، و قد استخدم العالم الألماني(كارل ويتفوجل) محك(السلطة)للتميز بين الاثنين....إلا أن محك(عددالسكان)هو المحك الشائع للتمييز بين الريف و المدينة....
#ثالثا:محكات متعددة//استخدم طائفة من العلماء (محكات متعددة)للتميز بينهما،فقد ميز (سوركن)و(زيمرمان)بين الريف و المدينة وفق ثمانية محكات:(المهنة- البيئة- الحجم- الكثافة-التجانس-الحراك-التباين-التفاعل)....أما (لويس ويرث)فقد اعتمد خمسة محكات (الحجم- الكثافة-العلمانية- التجانس-الضوابط الرسمية و وغير الرسمية).....
والحقّ أنّه ينبغي البحث عن محكات أخرى، أو الجمع بين هذه المحكات الثلاث،لأنّ ثنائية المدينة والريف تحولت إلى عمليتي (التمدن والتريف) ومع مرور الزمن أصبحت هذه العملية معقدة للغاية ،و الاكتفاء بمحك واحد قد لا يعطي صورة واضحة للتمييز بين ما هو ريفي و ما هو حضري،إذ لا يوجد مجتمع قروي صافٍ تمام الصفاء من القيم المدنية ومرتكزاتها،كذلك لا يوجد مجتمع مدني صافٍ تمامًا من القيم القروية،لأن الخط الفاصل بين ثنائية (المدني/القروي)خط هش جدا ،و لكننا دائما _عن جهل أو عن تجاهل_عندما يدار الحديث عن (المجتمع القروي) تقفز إلى أذهاننا ثلاث نقاط بها نفصل القرية عن المدينة،وهي:
1-إنه مجتمع ذو اكتفاء ذاتي .
2-تتحكم به العادات و التقاليد و الطقوس.
3- تتسيد فيه التربية بالأمثال و الحكم .
بهذه النقاط نحاول دأبا محاصرة المجتمع القروي وتقليص غزارة تراثه، ولا أنكر أن هذه النقاط الثلاث تشغل مساحة ثقافية واسعة من هذا المجتمع ،إلا أنه مع ذلك مجتمع ذو أنماط و تقاليد عائمة يصعب توقعها أو محاصرتها بكلمات.
إنّ المجتمع _أيّ مجتمع_ لا يمكن تمثّله و لا يمكن استيعاب قيمه ولا يمكن الإحساس بنبضاته إلا بالمعايشة والتزامن ،أي أن تقذف روحك وسط أوجاعه لكي يتسنى لك تمثّله.
أريد بذلك القول إن الدراسات الميدانية لا بدّ منها،لأن الدراسات والأبحاث من دون معايشة،لا تقرّبك من المجتمع القرويّ ،وإنما تغرّبك عنها.
و على أي حال ،فإن المجتمع القروي صعب محاصرته و اختزاله ،ليس لأنه ملتبس بالمدنية الزائفة، و إنما لأنه يتلون بصبغة الزمن، و يميل حيثما مال ....إنه مجتمع سيشغلنا كثيرا.
جدلية التريف والتحضر محكات التمييز بين الريف والمدينة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع