مدونة ياسر جابر الجمال


أزمة النقد ونقد الأزمة ابن الأثير وقضية التناص2

ياسر جابر الجمال | Yasser gaber elgammal


05/02/2024 القراءات: 501  


....... وفي هذا المعنى يؤكد محمد بنيس حيث يقول:" وفي خضم هذا الجدل في مفهوم التناص عند النقاد العرب القدامى، يكون إجراء مقاربة مفاهيمية (نقدية) لإرهاصات مفهوم التناص لدى النقد العربي القديم، أمرًا ذا فعل مهم في فهم التجذير النقدي لمفهوم التناص؛ فلقد وعى النقاد العرب القدامى جانبًا مهمًّا من هذا المفهوم وتحت مسميات عديدة ومختلفة شكلًا، ومتفقة في بعضها مضمونًا، ولعل أقرب تلك المفاهيم إلى موضوع البحث، هو قضية السرقات الأدبية، والتي ربطها النقاد العرب القدامى بمستويين، إما اللفظي أو المعنوي وأحيانًا بكليهما"( ‏).
وفي التأكيد على هذا المعنى يقول: الخطيب القزويني: " أن يضمن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث" ( ‏).
يقول أبوهلال العسكري: "إنه ليس لأحد من أصناف القائلين عني، عن تناول المعاني ممن تقدمهم والصب على قوالب من سبقهم، ولكن عليهم إذا أخذوها أن يكسوها ألفاظا من عندهم ويبرزوها في معارض من تأليفهم، ولولا أن القائل يؤدي ما سمع لما كان في طاقته أن يقول وإنما ينطق الطفل بعد استماعه من البالغين، وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: "لولا أن الكلام يعاد لنفد" ( ‏).
كما يرى ابن رشيق أنَّ التناص باب متسع جدًا، لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه، وفيه أشياء غامضة، إلا عن البصير الحاذق بالصناعة، وأخرى فاضحة لا تخفي عن الجاهل المغفل.
وقد أتى الحاتمي في "حلية المحاضرة" بألقاب محدثة تدبرتها ليس لها محصول إذا حققت: كالاصطراف، والاجتلاب، والانتحال، والاهتدام، والإعارة، والمرافدة، والاستلحاق وكلها قريب من قريب"( ‏).
و يقول عبدالقاهر الجرجاني: " وبذلك أن الشاعرَين إذا اتفقا، لم يخل من أن يكون إما في وجه الغرض على الجملة والعموم، أو في وجه الدلالة على الغرض"( ‏).
إن هذه النقولات تعطي شرعية كبيرة إلى القول بأن التراث العربي القديم قد جاءت فيه قضية التناص بصورة واضحة، لا تحتاج أكثر من ذلك للاستدلال لها، وهذا يؤكد ضرورة قراءة الثراث بصورة واضحة تكشف عن نقاط التلاقي بين القديم والحديث، وهذا يؤكد أن "القاعدة التي يرتكز عليها التناص في المفهوم الغربي، لها أنماط تأسيسية في الفكر النقدي العربي القديم، وتؤدي إلى الاقتراب والتقاطع مع هذا المصطلح الجديد في أبواب نقدية عربية قديمة، كما جاء في كتاب" تلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع" للخطيب القزويني في فكرة الاقتباس والتضمين والعقد والحل والتلميح؛ وعند ابن رشيق في كتاب (العمدة)، من خلال باب السرقات، وابن خلدون في فصله الذي سماه (في صناعة الشعر وتعلمه)، في إطار الحفظ الجيد؛ وأبي هلال العسكري في كتابه (الصناعتين) في الفصل الأول من الباب السادس في حسن الأخذ، أو وقع الحافر على الحافر، وظهر أيضا عند عبد القاهر الجرجاني في كتابه أسرار البلاغة الذي استدل حديثًا في وجه الاتفاق في الغرض على العموم والاتفاق في وجه الدلالة الغرض، لينتفي وجود سرقة على الإطلاق إلا في حالة تكون فيها نسخًا" ( ‏).

وأخيرًا: إن فكرة التناص في الفكر الغربي نشأت مع جوليا كريستفيا، وميخائيل باختين وتدل على فكرة: أنَّ النصوص ناشئةٌ عن التحول عن نصوص أخرى.
و" النقد الأدبي ككل علم ناشئ عن ملكات خاصة تنمو بالتربية والتمرين، فلو سُئلت عن ناشئ يريد أن يعد نفسه ليكون ناقدًا: أي طريق يسلك؟ أقول: إنه يجب عليه أولا أن يكثر من قراءة الأدب ويتفهم ويحاكي جيده، كالذي روى أن ناشئا عربيًّا سأل أستاذه كيف يشدو في الأدب؟ فنصحه أن يحفظ ديوان الحماسة ثم يجتهد أن يجعل شعره نثرًا بليغًا، فلما فرغ من ذلك طلب منه الإعادة، ثم أمره أن ينساها، والظاهر أن الشيخ نصح بذلك لأن الناشئ إذا نساها نسي مادتها وبقيت أنماطها في ذهنه يستمد منها عند حضور ما يناسبها"( ‏).
وهذا المعنى أكد عليه عبدالملك مرتاض، فقال: "التناص وهو يعبِّر عن الاستمرارية الجينية للنص يكشف أن الإبداع نص واحد أزلي مستمر تعبر الإنجازات المتتالية عن تمظهراته التي تتناسب طرديًا والمواقف التي أملتها فقط، فإذا تغيرت هذه الاقتضاءات الخارجية، تغير شكل النص ليناسبها، ويناسب حدة التوترات التي تسكنها"( ‏).
كما أن النظر إلى النص باعتباره مستقلًّا عن المؤلف يعد بداية جديدة لفهم النص دون وضعه في حيزات القولبة والأفق المحدود، ولذلك "ألم يئن أن يعتقد كل من يعنيه أمر الأدب بمفهومه المعاصر أن النص الأدبي ذو وجود شرعي مستقل عن مؤلفه إلى حد بعيد، على الرغم من أنه ينتمي إليه؟ فالنص الأدبي - بالقياس إلى مبدعه - يُشبه النطفة التي تقذف في الرحم، فينشأ عنها وجود بيولوجي، لكن الوليد على شرعيته البيولوجية والوراثية لا يحمل بالضرورة كل خصائص أبيه النفسية والجسدية والفكرية، إنه يستقل بشخصيته عن الأب، مهما حاول الأب أن ينشئه على بعض ما يجب ويشق في الغالب لنفسه طريقا خاصا به"( ‏).
هذا التأسيس يؤكد أن النص الأدبي يحتاج إلى قراءات مغايِرة تفتح لنا آفاقًا جديدة في التأويل والسيموطيقا؛ مما يثرى عملية التحليل، ويكون عاملًا مهما في فتح الباب واسعًا أمام الإبداع .
وهذا قد وعاه ابن الأثير وأكَّد عليه في كتابه " المثل السائر" عن تناول قضية السرقات الأدبية أو "التناص".
وللحديث بقية .



التناص ....


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع