مدونة د. جميل مثنى الحبري


في إجلال العلماء وتقديرهم منازلهم: د. رياض القرشي (1)

د. جميل مثنى الحبري | Jameel Alhipary


11/04/2022 القراءات: 1266  


في قاعة الشاعر عبد الله البردوني، بكليّة الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة صنعاء، في نهاية الفصل الثاني من عامنا الدراسي الأول (2001- 2002م)، أُقيمت فعاليّةٌ أدبيّة، بحضورِ بعض أساتذةِ قسم اللغة العربية، ومن الأقسام الأخرى، وبحضور طلّاب الكليّة، قدّم لها أستاذنا عبد الرحمن الصعفاني حينما كان مُعيدًا آنذاك. ألقى فيها الشاعرُ عبد الله مُعجب- المُعيد في قسم اللغة العربية، والمدرّس بالكليّة الحربيّة، وأحد أقارب أستاذنا الراحل الدكتور حمود القِيَري- طيّب الله ثراه- أستاذ أدب عصر الدول والإمارات- قصيدةً محفليّةً موسومةً بـ"لا تنبطح" في ذمِّ الحكّام العرب، بسبب انبطاحهم وتقاعسهم عن نصرة القضيّة الفلسطينيّة؛ هزّت القاعة، وأشعلت حماس الحاضرين، ونالت استحسانهم. وكان من بين أولئك الأساتذةِ الأجلّاء، أحدُهم متواجدٌ على المنصّة؛ أُقيمت هذه الفعاليّة برعايته، لم أرَه من قبل في الجامعة، ولم أكن أعرف أنّه أستاذٌ لدينا في القسم. في الحقيقة طننتُه مسؤولًا في وزارة التعليم العالي، أو إداريًّا في الجامعة، لا أدري لِمَ لم يتبادر إلى ذهني آنذاك الفضولُ للسؤال عنه؟ ذلك أنّ ما لفتني، وأثار انتباهي عنه، هو ذلك الوقارُ والسّمتُ المتّسمُ به؛ فقد كان هادئًا رزينًا، بشوشًا، طلقَ المحيا، تبدو عليه من هيئته، الرسميّة والجديّة، قليل الكلام، يقفُ إلى جانبه أستاذُنا القدير الدكتور عبد الوهاب راوح.
في العام التالي، فُوجئت به في الفصلِ الأوّل قادمًا إلى قاعة المحاضرة، لتدريسنا مادّة (النقد الأدبيّ القديم). إنّه الأستاذ الدكتور رياض عبد الحبيب القرشي، أحد أوائل الجمهوريّة في الثانويّة العامّة، والمدرّس بكليّة الشرطة، وذو المسؤوليّات والمهام المتعدّدة في وزارة الداخليّة لسنواتٍ طوال، والذي لو لم تشغله السياسةُ والمناصبُ، وفرّغ نفسه للعلمِ والمعرفة، لأغدقَ علينا بمؤلّفاتٍ هامّة وعميقة، كما شهِدَ له بذلك أستاذُنا د. عبد العزيز المقالح، في تقديمه لكتابه (بنية الرؤيا في قصة يوسف). هذه الجديّةُ والرسميّةُ في التعامل، والهدوء والرزانة والوقار، انعكست على طبيعة محاضراته وسمتها. لا أعني بذلك، ما يُفرضُ على القاعة من جوٍ مُفعَمٍ بالهيبة، نتيجة خلفيّةِ أستاذِنا العسكرية أو السياسيّة فحسب، فهذا متوافرٌ بطبيعةِ الأمر، بل ما أرمي إليه، هو أنّ طبيعةَ عملِه ومسؤوليّاته المتعدّدة فرضت عليه نمطًا معيّنًا في سلوكه وممارساته وحركاته وسكنَاته؛ تجلّى ذلك في كيفيّة أدائه في إلقاء المحاضرات، وما يرمي توصيله من معلوماتٍ وتوضيحات لطلّابه، وفي أسلوبه في التأليف والكتابة، وكذلك في وضعه لأسئلة الامتحانات. وبعبارةٍ أوضح، يُمكن القول: إنّ ثمّة سماتٍ، تتّسم به محاضراتُه عن سواه من الأساتذة، نتيجةَ ما سلف ذكرُه، تتمثّل في الآتي:
1- أساليب تربويّة مُطعّمة بالإجراءات العسكريّة: إلقاءُ المحاضرة واقفًا، بخلاف كثيرٍ من الأساتذة الذين يميلون إلى الإلقاء وهم جالسون؛ الديناميّةُ والحركة في القاعة طوال المحاضرة؛ تغييرُ مواضع تواجده باستمرار من مكانٍ إلى آخر أثناء إلقائه. بالطبع هذا متجلٍ مع طلّاب الدراسات الدنيا، لكثرة عددهم، دون الدراسات العليا.
2- أساليب تربويّة تحفيزيّة: السؤال المتكرّر، التنبيه، التكرار في الشرح، إعادة ذِكر المعلومة، الإشارة بالإصبع دومًا للتنبيه ولفت الانتباه، توزيع نظراته يمنةً ويسرة بين الطلاب جميعًا، وصوبَ الاتجاهات المتوافرة فيها كراسي الطلاب حسب نمط القاعة المُلقاة فيها المحاضرة.
3- تزمينُ المحاضرةِ لما لا يتجاوز الساعة.
4- الإيجازُ، والتكثيفُ، والإجمالُ في سرد المعلومة، وعدمُ الإسهابِ في ذكر التفاصيل والتشعّبات في مسألة من المسائل النقديّة أو البلاغيّة أو الأدبيّة.
5- الاكتفاءُ بوضع رؤوس أقلام، كآليّة إجرائيّة، سواء في عرض الموضوعات ومناقشتها، أم في معالجة قضايا الأدب ونظريّاته، أم في التطرق إلى المناهج النقديّة الحديثة والحداثيّة، ومن ثمّ الاتّكاء عليها في توصيل المعلومات وإرسالها إلى أذهان طلّابه ومتلقّيه.
يعدّ أستاذنا الحبيب رياض عبد الحبيب أحدَ أعمدةِ القسم وأركانه الذين حافظوا على سمعته وسيرورة أدائه- على الرغم من انشغالاته الكثيرة، منذ عودته لليمن بعد حصوله على الدكتوراه عام 1988م من جامعة القاهرة، في النقد الأدبي الحديث- لما يتجاوز ربع القرن. إذ كان لا يُبتُّ بأمرٍ من أمور القسم، ولا يُقطع بشأنٍ من شؤونه دون الرجوع إليه، حتّى في إجراء امتحانات القبول لطلّاب الدراسات العليا، وكذلك حرصه البالغ على اختيار من هم أهلٌ لذلك دون محاباةٍ أو مُداهنة، بل وتشدّده في ذلك مهما كانت درجةُ التوصية الداعمة، أو الخطاب الموجّه إلى القسم، وقد شاهدنا ذلك بأمّ أعيينا ولمسناه. وهذا هو ديدنُ العلماء، لا يخافون في الله لومة لائم. فضلًا عمّا كان يتحلّى به من حكمةٍ ووعي منقطعي النظير؛ فقد كان بمثابة (المرجعيّة)، يرجعُ إليه الأساتذة فيما كانت تنشب بينهم من خصوماتٍ، نتيجة المماحكات، كما هو الشأنُ في بقيّة الأقسام الأخرى. تعلّمنا على يدي هذا العالم الجليل موادَّ عدّة، ظلّت حِكرًا عليه لفترةٍ طويلة، لا يُدرّسها سواه، هي: النقد الأدبي القديم، والنقد الأدبي الحديث، ونظريّة الأدب، والأدب المقارن، بالإضافة إلى تدريسه مادة الدراسات النقديّة الحديثة لطلّاب الدراسات العليا، وكذلك تعاونه في تدريس مادة تحقيق المخطوطات، لإلمامه بأسس التحقيق ومبادئه وإجراءاته؛ فقد أعدّ رسالته للماجستير في تحقيق كتاب (الإيجاز) ليحيى بن حمزة العلوي (ت: 745 هـ)؛ والتي لا يتوافر منها للأسفِ الشديد سوى نسخةٍ وحيدةٍ، في جامعة القاهرة، كما صرّح بذلك في إحدى محاضراته، وأتذكّر حينئذٍ أنه جلبَ لنا كتابًا عن الخطوط وتاريخها عندما عاد من سفره. ممّا تسنّى له بذلك الجمع بين تخصّصين علميّين: علم التحقيق وعلم البلاغة العربية، بالإضافة إلى النقد الأدبي الحديث في الدكتوراه. درّس العديد من الأساتذة العاملين في مختلف الجامعات اليمينة، ممّن توافدوا على كليّة الآداب ودرسوا فيها.


في إجلال العلماء، د. رياض القرشي.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع