مدوّنة الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب القباطي


: أثر التّكامل المعرفيّ في بناء القدرات العقليّة وتنميتها (1)

الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب | Associate Professor Dr. Muneer Ali Abdul Rab


03/05/2022 القراءات: 1708  


سبق وأن ذكرنا أنّ التّكامل المعرفيّ بين العلوم قد تجسّد في عقول نخبة من علمائنا الأجلّاء، فكان الواحد منهم يتبحّر في ميادين شتّى من العلوم، وكيف كان لذلك التّبحّر، والمعرفة لتلك العلوم الأثر البالغ في تطوّر الأفكار، وتنامي البحوث، وتراكم المصنّفات، فأسفرت نهضة علميّة فكريّة دينيّة لغويّة، أعطت من نتائج التّصوّر والرّؤى والتّآليف ما نهض بالبحوث العلميّة نهضة عظيمة، لم يشهد لها التّاريخ مثيلًا، فنقلت الأمّة الإسلاميّة نقلة نوعيّة متميّزة، حيث أصبحت تحتلّ مركز الصّدارة بين الأمم الأخرى بفضل الله، ثمّ بفضل أولئك العلماء الأجلّاء الّذين حفظوا التّراث الإنساني القديم من الضّياع والتّلاشي، ورفدوا الفكر الإنساني في العصر الوسيط بالعلوم والمعارف الجديدة، وتعلّمت من تلك العلوم والمعارف الثّقافات الّتي جاءت بعدها، وما زالت المجتمعات البشريّة تتذكّر دورهم وفضلهم إلى عصرنا الحاضر. فإن كان هذا الدّور قد تحقّق في العصور الأولى، فتحقّقه في عصرنا الحاضر أولى؛ لاتّسامه بالتّطوّر التّكنلوجيّ السّريع، وتعدّد التّخصّصات الدّقيقة في مجالات شتّى. والأمّة الإسلاميّة اليوم بحاجة ماسّة إلى العالم الموسوعيّ، الّذي يجمع بين تلك العلوم، فيمدّ العلوم الأخرى (العقليّة) بأدوات ومناهج وكلّيّات المعرفة العلميّة في مجال الوحي، فتعيد بهم الأمّة مجدها وصدارتها وريادتها.

إنّ تقديم العلوم النّقليّة والعقليّة أو الإنسانيّة والطّبيعيّة وغيرها ضمن المناهج التّعليميّة في المدارس والمعاهد والكلّيّات والجامعات الإسلاميّة على نحو متكامل، من شأنه أن يسهم في تكوين النّضج العقلي والفكر المتّزن تجاه الأمور، فمثلًا على صعيد التّعامل مع التّكنولوجيا -استيرادًا أو إبداعًا- يمكن للعلوم المختلفة أن تتعاون على تحديد ما هو ملائم منها للمجتمع، وما هو منسجم مع الواقع، فعلماء السّكّان من خلال الدّراسات الميدانيّة والإحصائيّة والتّنبُئيّة يمكنهم تقديم صورة واضحة عن تركيبة المجتمع وخصائصه وحركته، وعلماء الاجتماع بوسعهم تحليل الواقع الثّقافيّ والاجتماعيّ وتحديد مدى قدرته على التّعامل مع الأفكار والأساليب الحديثة، وبمقدور علماء الاقتصاد -عبر الدّراسات المقارنة- تبيان ما هو ملائم ومجدٍ من تكنولوجيا.

فحقـول المعرفة لا يمـكن أن يتقدّم أيّ منها بمعـزل عن الآخر، إذا ما أريد لها أن تبقى معرفة متطوّرة وبنّاءة، تؤتي ثمارها في صقل العقول، وتطوير المهارات. والتّقدّم العلميّ أخذ يكشف مؤكّدًا يومًا بعد يوم حقيقة التّكامل عبر ما يلاحظ من اتّصال وتداخل بين العلوم المختلفة، فالفيزيائيّ مثلاً إذا كان يحتاج إلى الرّياضيّات باعتبار أنّ الفيزياء في بُعدها التّجريبيّ رياضيّات من حيث تقنيتها، فإنّ الرياضيّ لا يسعه غير الاهتمام بــ«الفيزياء الرّياضيّة» الّتي تحلّ بطريقة استنتاجيّة بعض المشكلات المطروحة في حقل الفيزياء، ومثله الكيميائيّ الّذي ليس بمقدوره التقدّم دون رفد الفيزياء في حقل اختصـاصه، أمّا عالم الأحياء، فيحتاج بالضّرورة إلى الكيمياء والفيزياء والرّياضيّات، فالتّرابط والتّكامل بين هذه العلوم بات حقيقة واضحة، وكذلك التّرابط بين العلوم الدّينيّة مع بعضها، لا ينكره أحد، كما أنّ التّرابط والتّكامل بينها وبين العلوم الدّنيويّة أصبح يقرّ به الكثير من العلماء والباحثين في عصرنا الحاضر؛ لما له من أثر بالغ في بناء القدرات والتّصوّرات العقليّة وتنميتها لدى الدّارسين.

يقول د.محمّد عبد السّلام الباكستانيّ، الحائز جائزة نوبل في الفيزياء: إنّ معرفته الدّينيّة كانت أحد روافد الإلهام الّذي كشف له عن وحدة القوّتين «الكهرومغناطيسيّة» و «النّوويّة الضّعيفة»! (Islam Wib، https://library.islamweb.net/newlibrary/display_umma.php,9/6/2019). فأضحى من الضّروريّ أن تقرّر المؤسّسات العلميّة مناهج متنوّعة لطلّابها، تجمع فيها بين العلوم المختلفة؛ فالطّالب المتخصّص في الطّبّ، يقررّ له مع العلوم الّتي يدرسها علوم دينيّة، كالقرآن والتّفسير والفقه واللّغة، ... والمتخصّص في العلوم الدّينيّة، كالفقيه مثلًا، يقرّر له مع العلوم الّتي يدرسها علوم طبيعيّة وطبّيّة، وغيرها، ولو بالقدر الكفائيّ، الّذي يتعلّق بالحالات أو الوقائع الّتي يتصدّى لها، فهناك - مثلًا- نوازل طبّيّة كثيرة، بحاجة إلى معرفة الطّبّ، ذلك لتكتمل المعرفة العلميّة لدى الطّلّاب، وتنفتح رؤاهم وتصوّراتهم الذّهنيّة في مواجهة المشكلات والعوائق.

قال الإمام الشّوكاني (As Shawkani, 1419): "ولقد وجدنا لكثير من العلوم الّتي ليست من علم الشرّع نفعًا عظيمًا وفائدة جليلّة في دفع المبطلين والمتعصّبين وأهل الرّأي البحت ومن لا اشتغال له بالدّليل، فإنّه إذا اشتغل من يشتغل منهم بفنّ من الفنون كالمشتغلين بعلم المنطق، جعلوا كلامهم ومذكّراتهم في قواعد فنّهم، ويعتقدون لعدم اشتغالهم بغيره أنّ من لا يجاريهم في مباحثه ليس من أهل العلم ولا هو معدود منهم، وإن كان بالمحلّ العالي من علوم الشّرع، فحينئذ لا يبالون بمقاله ويوردون عليه ما لا يدري ما هو، ويسخرون منه، فيكون في ذلك من المهانة على علماء الشّريعة ما لا يقادر قدره. وأمّا إذا كان العالم المتشرّع المتصدّر للهداية إلى المسالك الشّرعيّة والمناهج الإنصافيّة عالمًا بذلك، فإنّه يجري معهم في فنّهم، فيكبر في عيونهم، ثمّ يعطف عليهم، فيبيّن لهم بطلان ما يعتقدونه بمسلك من المسالك الّتي يعرفونها، فإنّ ذلك لا يصعب على مثله، ثمّ بعد ذلك يوضّح لهم أدلّة الشّرع، فيقبلون منه أحسن قبول، ويقتدون به أتمّ قدوة، وأمّا العالم الّذي لا يعرف ما يقولون، فغاية ما يجري بينه وبينهم خصام وسباب ومشاتمة، هو يرميهم بالاشتغال بالعلوم الكفريّة، ولا يدري ما هي تلك العلوم، وهم يرمونه بالبلادة وعدم الفهم والجهل بعلم العقل، ولا يدرون ما لديه من علم الشّرع"


أثر، التّكامل، المعرفة، تنمية، القدرات.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع