مدونة عبدالحكيم الأنيس


أذنْ قبل الفجر (علامة بين الإمام والخليفة)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


10/03/2022 القراءات: 1217  


قال تاجر بغدادي:
كان لي على بعض الأمراء مال كثير فماطلني ومنعني حقي، وجعل كلما جئت أطالبه حجبني عنه ويأمر غلمانه يؤذونني، فاشتكيت عليه إلى الوزير فلم يفد ذلك شيئًا، وإلى أولياء الأمر من الدولة فلم يقطعوا منه شيئا، وما زاده ذلك إلا منعا وجحودا، فأيستُ من المال الذي عليه ودخلني همٌّ من جهته، فبينما أنا كذلك وأنا حائر إلى من أشتكي إذ قال لي رجل: ألا تأتي (فلانًا الخياط) -إمام مسجد هناك-؟
فقلتُ: وما عسى أن يصنع خياطٌ مع هذا الظالم، وأعيانُ الدولة لم يقطعوا فيه؟
فقال لي: هو أقطع وأخوف عنده مِن جميع من اشتكيتَ إليه، فاذهبْ إليه لعلك أن تجد عنده فرجًا.
فقصدته غيرَ محتفل في أمره فذكرتُ له حاجتي وما لي وما لقيت من هذا الظالم فقام معي، فحين عاينه الأمير قام إليه وأكرمه واحترمه وبادر إلى قضاء حقي الذي عليه فأعطانيه كاملا من غير أن يكون منه إلى الأمير كبير أمر غير أنه قال له: ادفعْ إلى هذا الرجل حقه وإلا أذنتُ. فتغير لونُ الأمير ودفع إليَّ حقي.
فعجبتُ من ذلك الخياط مع رثاثة حاله وضعف بنيته كيف انصاع ذلك الأمير له!
ثم إني عرضتُ عليه شيئًا من المال فلم يقبل مني شيئًا، وقال: لو أردتُّ هذا لكان لي من الأموال ما لا يُحصى.
فسألتُه عن خبره وذكرتُ له تعجبي منه وألححتُ عليه، فقال:
إنَّ سبب ذلك أنه كان عندنا هاهنا أميرٌ تركيٌّ شابٌّ حسنٌ، فلما كان ذات يوم أقبلت امرأةٌ حسناء قد خرجتْ من الحمّام وعليها ثيابٌ مرتفعة ذات قيمة، فقام إليها وهو سكران فتعلق بها يريدها على نفسها ليدخلها منزله، وهي تأبى عليه وتصرخ بأعلى صوتها: يا معشر المسلمين أنا امرأة ذاتُ زوج، وهذا الرجل يريدني على نفسي ليدخلني منزله وقد حلف زوجي بالطلاق أن لا أبيت في غير منزله ومتى بت هاهنا طلقتُ منه ولحقني بسبب ذلك عارٌ لا تدحضه الأيام ولا تغسله المدامع. فقمتُ إليه فأنكرتُ عليه وأردتُّ خلاص المرأة من يديه فضربني بدبوس في يده فشج رأسي وغلب المرأةَ على نفسها وأدخلها منزله قهرًا.
فرجعتُ أنا فغسلتُ الدم عني وعصبتُ رأسي وصليتُ بالناس العشاء.
ثم قلتُ للجماعة: إن هذا قد فعل ما قد علمتم فقوموا معي إليه لننكر عليه ونخلص المرأة منه، فقام الناسُ معي فهجمنا عليه داره، فثار إلينا في جماعةٍ من غلمانه بأيديهم العصي والدبابيس يضربون الناسَ وقصدني هو من بينهم فضربني ضربًا شديدًا مبرحًا حتى أدماني، وأخرجنا من منزله ونحن في غاية الإهانة.
فرجعتُ إلى منزلي وأنا لا أهتدي إلى الطريق مِن شدة الوجع وكثرة الدماء، فنمتُ على فراشي فلم يأخذني نومٌ، وتحيرتُ ماذا أصنع حتى أنقذ المرأة من يده في هذه الليلة لترجع فتبيتَ في منزلها حتى لا يقع على زوجها الطلاق، فألهمتُ أنْ أؤذن للصبح في أثناء الليل لكي يظنَّ أن الصبح قد طلع فيخرجها من منزله فتذهب إلى منزل زوجها، فصعدتُ المنارة وجعلتُ أنظر إلى باب داره -وأنا أتكلمُ على عادتي قبل الأذان- هل أرى المرأة قد خرجتْ؟ ثم أذنتُ فلم تخرجْ.
ثم صممتُ إن لم تخرجْ أقمتُ الصلاة حتى يتحقق الصباحَ.
فبينا أنا أنظر هل تخرجُ المرأة أم لا؟ إذ امتلأت الطريق فرسانًا ورجالة وهم يقولون: أين الذي أذنَ هذه الساعة؟
فقلت: هأنذا، وأنا أريدُ أن يعينوني عليه.
فقالوا: انزل. فنزلت.
فقالوا: أجبْ أمير المؤمنين.
فأخذوني وذهبوا بي لا أملك من نفسي شيئًا، وما زالوا بي حتى أدخلوني على الخليفة (المعتضد بالله)، فلما رأيتُه جالسًا في مقام الخلافة ارتعدتُّ من الخوف وفزعتُ فزعًا شديدًا، فقال: ادنُ. فدنوتُ.
فقال لي: ليسكنْ روعك وليهدأ قلبك.
وما زال يلاطفني حتى اطمأننتُ وذهب خوفي.
فقال: أنت الذي أذنتَ هذه الساعة؟
قلت: نعم يا أمير المؤمنين.
فقال: ما حملك على أنْ أذنتَ هذه الساعة وقد بقي من الليل أكثرُ مما مضى منه، فتغر بذلك الصائم والمسافر والمصلي وغيرهم؟!
فقلت: يؤمنني أميرُ المؤمنين حتى أقص عليه خبري؟
فقال: أنت آمنٌ. فذكرت له القصة.
قال: فغضب غضبًا شديدًا، وأمر بإحضار ذلك الأمير والمرأة من ساعته على أي حالة كانا. فأُحضرا سريعا، فبعثَ بالمرأة إلى زوجها مع نسوة من جهته ثقات، ومعهن ثقة من جهته أيضًا، وأمره أن يأمر زوجها بالعفو والصفح عنها والإحسان إليها، فإنها مكرهة ومعذورة، ثم أقبل على ذلك الشاب الأمير، فقال له: كم لك من الرزق؟ وكم عندك من المال؟ وكم عندك من الجواري والزوجات؟ فذكر له شيئًا كثيرًا.
فقال له: ويحك أما كفاك ما أنعم اللهُ به عليك حتى انتهكت حرمة الله وتعديت حدوده، وتجرأت على السلطان، وما كفاك ذلك حتى عمدتَ إلى رجلٍ أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر فضربته وأهنته وأدميته؟!
فلم يكن له جوابٌ، فأمر به فجُعل في رجله قيد وفي عنقه غل ثم أمر به فأُدخل في جوالق ثم أَمر به فضُرب بالدبابيس ضربا شديدا حتى خفتَ صوته، ثم أمر به فألقي في دجلة فكان ذلك آخر العهد به، ثم أمر (بدرًا) صاحب الشرطة أن يحتاط على ما في داره من الحواصل والأموال التي كان يتناولها من بيت المال بغير حلها.
ثم قال لذلك الرجل الصالح الخياط: كلما رأيتَ منكرًا صغيرًا كان أو كبيرًا ولو على هذا - وأشار إلى بدر صاحب الشرطة - فأعْلمني به، فإن اتفق اجتماعُك بي وإلا (فعلامة ما بيني وبينك أنْ تؤذن في مثل وقت أذانك هذا).
قال: فبهذا السبب لا آمرُ أحدًا من هؤلاء الدولة بشيء من الخير أو أنهاه عن شيء إلا بادر إلى امتثاله وقبوله خوفًا من المعتضد، وما احتجتُ أن أؤذن في مثل تلك الساعة إلى الآن.


الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. حكايات بغداد.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


شكرا على هذه القصة الطريفة و الداعية الى مكارم الاخلاق


وشكرا لكم على المرور والمتابعة والتعليق.


كيف لا والأذان معناه: قوموا إلى الله فهو أكبر من كل كبير.


صدقتم الأذان دعوة إلى الله والدعوة إلى الله دعوة إلى كل خير وفضيلة وسمو ورقي. أشكركم