الكوزموبوليتانية في شخصية الإسكندرية
ياسر جابر الجمال | Yasser gaber elgammal
07/01/2024 القراءات: 462
يمكن فهم شخصية الإسكندرية بعيدًا عن مفهوم الكوزموبولتيانية التي هي مزيج خاص من عدة ثقافات أهمها بالطبع الثقافة العربية، ويليها الثقافة اليونانية سواء في عصورها القديمة أو عصورها الحديثة.
والحقيقة أن الإسكندرية كانت تعج بالكثير من السكان اليونانيين الذين ينتشرون في مختلف بقاع المدينة.
كما عاش فيها الشاعر اليوناني الكبير قسطنطين كافافيس، والذي كان له تأثير على الحياة الأدبية في المدينة، ولذلك" ما العنصر الفاعل في هذه الشاعرية؟ أقصد ما هي السمة الجوهرية في شخصية الإسكندرية التي صنعت شاعريتها؟.
السمة الجوهرية في شخصية الإسكندرية هي أنها مدينة تحتضن العالم كله، مدينة كوزوموبوليتانية تتجاوز حدود الوطن وتعيش في العالم ويعيش العالم فيها.
العربية بالطبع هي لغة الإسكندرية القومية منذ عدة قرون، لكن اليونانية أيضا لغة من لغاتها، والعبرية، والإيطالية، والفرنسية، وقد فطن الطهطاوي لهذه السمة الجوهرية فقال في ملحوظة مبكرة في كتابه تخليص الإبريز: إنها - أي الإسكندرية - قريبة الميل في وضعها وحالها إلى بلاد الإفرنج، وإن كنت وقتئذ - أي قبل أن يخرج من مصر - لم أر شيئا من بلاد الإفرنج أصلاً، وإنما فهمت ذلك مما رأيته فيها دون غيرها من بلاد مصر، ولكثرة الإفرنج ونحو ذلك، وتحقق ذلك عندي بعد وصولي إلي مرسيليا، فإن الإسكندرية عينة مرسيليا وأنموذجها.
شعر الإسكندرية إذن هو شعر كل اللغات وكل الثقافات وكل العصور، وهذه أول سمة تشخصه، ومنها تأتي بقية السمات؛ فشعر الإسكندرية مزاج جديد من الشعر لأنه ثمرة الحوار والتفاعل والاتصال بين اللغات والثقافات"( ).
وهذه الفقرة السابقة دالة على بروز عنصر غير عربي في نسيج الشعر والأدب في الإسكندرية إذ لا يمكن أن تنتج مدينة شعرًا حقيقيًا لا يتأسس على أصل نسيجها الاجتماعي، وهو في حالة الإسكندرية نسيج متعدد الأجناس، وذلك كما رأينا - في العرض التاريخي- بعدًا أصيلاً سبق أن أشار إليه الباحث، وقد آن أن نلقي الضوء مجددًا على أهميته، وهو كون الإسكندرية، نموذجًا مستمرًا لتدفق الثقافة الهيليستنية في العصور المختلفة، وهي تعني انصهار الفكر اليوناني بالفكر اللاتيني والعربي في العصر "السكندري"، وظهرت خلال هذه الفترة فكرة الانفتاح على الثقافات والانفلات عن الثقافة الواحدة، كما ظهر العرفان الصوفي عند محتليه الكبار والهروب من المنطقية الصارخة التي كان قد أرسى أرسطو أبعادها.
وهذا له أثر كبير جدًّا على شكل واتجاه الشعر على مدار الزمن. ويرصد الباحث صورًا له لدى شعراء الإسكندرية الكبار في النصف الثاني من القرن العشرين، " كان العصر لذي افتتحه الإسكندر... عصر انفتاح بين الشرق والغرب، توفرت فيه فرص التداخل بين المقومات الحضارية التي ينطوي عليها كل من الجانبين، أو بين ردود فعل هذه المقومات على أقل تقدير، بحيث كان كل من الشرق والغرب ممثلا بطريقة أو بأخرى، وقد تعارف الغربيون على تسمية هذا العصر الجديد الذي تداخلت فيه العناصر الحضارية الشرقية والغربية لتشكل حضارة من نوع جديد باسم "العصر الهلينستي"، وهي تسمية أطلقها المؤرخ الألماني يورهان دروين Johann Droysen، في أواخر النصف الأول من القرن الماضي ليميز بها الحضارة الجديدة عن الحضارة اليونانية أو الإغريقية الكلاسيكية التي عاصر العالم المتحضر مرحلة نضجها في القرنين الخامس والرابع ق.م. - والتي عرفت باسم الحضارة الهلينية- على أساس أن الحضارة الجديدة منتسبة لهذه الحضارة السابقة أو متأثرة بها، كما تدل على ذلك نهاية كلمة هلنستي (Hellenistic. Hellenistique. Hellenistisch) التي تشير إلى الانتساب أو التأثر( ).
ميز إذن هذا البعد الهيلينستي الإسكندرية عن غيرها من مدن الشرق الأوسط فلم تحبس نفسها في إطار أيديولوجي إقليمي واحد، ولم ترتكز على معطيات محلية تنف غيرها من العطاءات الإنسانية في العقل والروح على السواء "إنَّ الإسكندرية بثقافتها الهيلينستية لتعدُّ أنموذجًا فارقًا وفريدًا بين حضارات العالم؛ فلم ينشأ بها صراع يذكر بين حضارة الوافد الفاتح وبين حضارة المقيم، لم يفرض اليونانيون ثقافتهم عنوةً ولم يرفض السكندريون الآخر، بل امتصَّا بعضهما ليعيدا تكوين الضمير الإنساني داخل أروقة مكتبة الإسكندرية، وكان للأدب - والشعر خاصةً - نصيبه الوافر من ذلك التكوين.
فعلى الرغم من معرفة اليونانيين بفن "الإبيجراما" كأحد فنون الشعر لديهم، إلا أنَّ ذلك الفن ارتبط باسم شاعر الإسكندرية العظيم "كاليماخوس" الذي أخلص لهذا الفن الشعري المكثف ساخرًا من شعراء الملاحم اليونانيين من أمثال "هوميروس"( ).
الإسطندرية ، الكزبوليتانية ،
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع