مدونة د. طه أحمد الزيدي


علمني الحج (تأملات في فريضة الحج)

د. طه أحمد الزيدي | Dr. TAHA AHMED AL ZAIDI


24/06/2022 القراءات: 1795  


في رحلتنا الدراسية مررنا بمحطات لنتزود منها معين العلم والمعرفة، وتنقلنا في رحاب المدارس والجامعات وتعلمنا منها ما تعلمنا، كما تنقلنا بين رياض الجنة (حلقات المساجد) وتعلمنا وازددنا علمنا.
ولكن حينما يأتي موسم الحج ونتأمل مقاصده، فنجده مدرسة من نوع فريد بل جامعة عريقة من أكبر جامعات التعليم والبناء العلمي بمستوياته الثلاثة (المعرفية والوجدانية والمهارية).
علمني الحج : التوحيد الخالص لله رب العالمين، وأن المسلمين مهما اختلفت أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وبلدانهم يجتمعون في طاعة واحدة متجردة وشعيرة ربانية فريدة (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).
علمني الحج: أن العبادات لا تكتمل لذتها ولا تتحقق مقاصدها الا بالأخلاق والسلوكيات القويمة، فالأخلاق جسر يربطك مع الآخرين في ظلال الربانية: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ)، فهو مدرسة اخلاقية تربوية ميدانية في أشد الظروف واصعب المواقف.
علمني الحج: أن النقاء والطهر لا يحتاج إلى أنهر ولا أبحر لتزيل درن المعاصي والخطايا، وإنما هي طاعة متجردة خالصة لله : (الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ) (من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه).
علمني الحج: معنى المساواة والعدل فالغني والفقير والرئيس والمرؤوس والحاكم والمحكوم، سوف يتجردون جميعا من المظهرية الجوفاء، وسيشعر الكلّ بسعادة المساواة أمام ربّ العباد، في صعيد واحد، يشتركون جميعا في نوع الملبس والعمل والطاعة.
علمني الحج: أن الشريعة يسرّ والحرج فيها مرفوع، وكلما ازدادت المشقة توسعت أبواب التيسير، فقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم شعار (افعل ولا حرج) في كثير من المواطن (فما سئل يومئذ عن شيء إلا قال: «افعل ولا حرج»)، ما دامت في دائرة الطاعة، فلا تشدد ولا تنطع ولا تقعر ولا مزايدة على شرع الله ورحمة الله.
علمني الحج : الوفاء للأمهات وللآباء، وأولهم الوفاء لأبي الأنبياء ابراهيم الخليل عليه السلام: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)، (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).
وآباؤنا وأمهاتنا بذلوا لنا الكثير من أجلنا، وضحوا بالنفيس لرعايتنا، حتى فاتهم قطار الحج، ولم تتوفر لهم الاستطاعة فقد بذلوها لنا، فجاء التوجيه النبوي للذرية الصالحة لتعبر عن وفائها للأمهات والآباء: قَالَ أحدهم: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، وَلَا الْعُمْرَةَ، وَلَا الظَّعْنَ قَالَ: «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ، وَاعْتَمِرْ»، وقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، إِنْ حَزَمْتُهَا عَلَى الرَّحْلِ خَشِيتُ عَلَيْهَا، وَإِنْ حَمَلْتُهَا لَمْ تَسْتَمْسِكْ عَلَى الرَّحْلِ، قَالَ: حُجَّ عَنْ أُمِّكَ، ومن وفاء العلماء أنهم حجوا عمن لم يحج من العلماء فقد حج عن ابن حزم كثير من أهل العلم، وحج مفتي المملكة العربية السعودية عن الائمة ابن حزم وابن عبد البر والنووي والمنذري وابن رجب لما يرى من فضلهم عليه في العلم.
علمني الحج: المبدئية وترك المداهنة ولو كان الاغراء بأعظم عبادة، فالشوق الى بيت الله الحرام وأداء فريضة الحج واغتنام الموسم لا يزهد فيه عالم أو داعية، ولكنها لا تغلب الورع والتجرد، فلا يسقط العلماء الانقياء الاتقياء في لوثة الطغاة او تزلف الادعياء، فمن لا يملك لا يأخذ مالا ملوثا من يد حاكم او ملك، فثبتوا وثبت الله بهم خلقا كثيرا، فبعض العلماء رفض منحة من حاكم لأداء فريضة الاسلام، وأجاب الحج مقيد بالاستطاعة ولا استطاعة لنا، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)، فمواقف العلماء لا تشترى ولو بطاعة مبطنة المقصد، وكم من عالم لم يحج ولم يؤدِ فريضة الزكاة، لعدم القدرة على النفقة ولا يملك نصابا، ولو طلب لبذلت له: قال القاضي ابن هانئ: إمامان ما اتفق لهما الحج, أبو إسحاق, وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني، أما أبو إسحاق فكان فقيرا, ولو أراده لحملوه على الأعناق، والآخر لو أراده لأمكنه على السندس والإستبرق، واعتذر علامة العراق الشيخ عبد الكريم الدبان عن قبول منحة رسمية لأداء فريضة الحج على نفة الدولة، واشتهر عنه: ركنان لم يستطع أداءهما الزكاة والحج.
علمني الحج: أن المحاسبة منجاة، فالحج يأتي في شهر ذي الحجة وبه يختم العام الهجري، ومعهود أن أهل الدنيا يجرون حساباتهم الختامية لما يملكون في نهاية العام، وحري بأهل الآخرة أن يبادروا الى محاسبة النفس (ما له وما عليها) واغتنام موسم الحج كفرصة لبداية صفحة جديدة من الحياة والاستعداد لدخول الجنة بإذن الله: فالحاج يرجع كيوم ولدته أمه، والحج المبرور جوازك الى الجنة، وصاحب المسؤولية أشد حرصا على اغتنام موسم الحج واجتماع أمراء الاقاليم للقيام بواجب المساءلة والمحاسبة، فكان الخلفاء العدول يوافون عمالهم في الموسم لمحاسبتهم فيما يتعلق بأمور الرعية.
علمني الحج: أن الوطن عزيز حتى لو نبذنا أهله أو ظلمنا طغاته، وأعز وطن ما استوطنته الطاعة، ومن الوفاء للأوطان الحرص على إعمارها بالقيم العليا التي شرعها الله تعالى، كالعدل والاخلاص والرحمة والحرية والسلام والأمن والأمان، وقف النبي عليه الصلاة والسلام أمام مكة، فقال: "علمت أنك خير أرض الله، وأحب الأرض إلى الله عز وجل، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت" فكانت مكة والمدينة حرما آمنا. علمني الحج ما لم اتعلمه مما سواه.


الحج- مقاصد الحج - علمني الحج- خواطر حاج - دروس الحج


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع