مدونة عبدالحكيم الأنيس


نهاية الحاسد الماكر ونجاة الناصح الطاهر

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


06/03/2022 القراءات: 1621  


الحاسدُ الماكرُ يعود بالضرر على نفسه ولا ريب، وهذه حكايةٌ عجيبةٌ عن حاسدٍ أحرقَ الحسدُ قلبَه، وأعمى المكرُ عينيه، فاحترقَ بنار حسدهِ، وقُتل بمكيدة نفسهِ.
***
كان فيمَن كان قبلنا (ملكٌ) وكان له (حاجبٌ) ناصحٌ أمينٌ يُقرِّبه ويُدنيه، لما رأى فيه من عفة النفس، وصدق اللسان، وطهارة الذيل، وكان هذا الحاجبُ يقول: أيها الملكُ أحسِنْ إلى المُحسن، ودع المسيء تكفِك إساءتُه. وما كان يواجه الملكَ إلا بما يعود بالخير عليه في نفسه، ورعيته، ومملكته.
وقد وقع له ما يقعُ لأمثاله من المخلصين الناصحين، فحسده رجلٌ على قربه من الملك، وإقباله عليه، وإكرامه له، فسعى به وكذبَ عليه وأراد به الشرَّ فقال: أيها الملك، إن هذا الحاجبَ هو ذا يُخبر الناسَ أنك أبخر، (ذو رائحة كريهة تصدر عنك إذا تكلمتَ).
قال الملكُ: وكيف لي بأن أعلمَ ذلك، وأنك صادقٌ فيما تقوله وتخبرني به؟
قال: إذا دخل عليك تدنيه لتكلمه، فإنه يقبضُ على أنفه لكيلا يشم تلك الرائحة.
وذهب الساعي الحاسدُ الماكرُ فدعا الحاجبَ إلى دعوته في بيته، واتخذ من الطعام مرقةً، وأكثرَ فيها الثومَ، وجاء الحاجبُ وهو غافلٌ عما يُراد به، وتناولَ من ذلك الطعام.
فلما أن كان من الغد دخل الحاجبُ على الملك كما جرتْ به عادتُه، فأدناه الملكُ منه ليكلمه بشيءٍ، فقبضَ بيده على فمه، لكيلا يؤذيه ببقايا رائحة الثوم.
وهنا تأكد للملك ما قاله ذلك الساعي الواشي الماكرُ، فقال له: تنحَ. ودعا بالدواة، وكتب له كتابًا وختمَهُ وقال: اذهبْ بهذا إلى فلانٍ (وكأنه الوزير القائم على تنفيذ أوامر الملك). وكانت جائزته مئة ألف، ولكنه كتبَ هذه المرة: (إذا أتاكم حاملُ كتابي هذا فاذبحوه، واسلخوه، واحشوه التبنَ، ووجهوه إليَّ).
فلما أنْ خرجَ الحاجب -وهو لا يظنُّ إلا أنه سيتناول جائزةً كما تعوّد- استقبله الساعي الماكرُ فقال: أي شيء هذا في يدك؟
قال: كتاب قد دفعَه إليَّ الملكُ. فخَيلَ له طمعُه بريقَ الذهب في ذلك الخطاب الملكي، وكأنه ظنَّ أن الملك صرَفَه عنه، ومنحَه في هذا الكتاب مكافأةَ خدمتهِ السابقةِ، فاستوهبَه ذلك الكتابَ المختومَ، فاستحيى الرجلُ وقال في نفسه: لقد أكرمني هذا الرجلُ ودعاني إلى بيته فلنْ أردَّه خائبًا، ووهبَه له، فأخذ الكتابَ، ومرَّ به مسرعًا إلى فلانٍ الذي عيَّنه الملكُ، يكاد قلبُه يسبق رجليه، وهو يُمنّي نفسه بجائزة ملكية جليلة... فلما أنْ فتحوا الكتابَ المختومَ دعوا بالذبَّاحين، فارتاع الساعي واضطربَ، ورأى بريقَ السيوف والحتوف بدلًا من بريق الذهب والأرب، فتجمّد الدم في عروقه، وصاح متوسلًا بهم: اتقوا اللهَ يا قوم، فإنَّ هذا غلطٌ وقعَ عليَّ، وعاوِدوا الملكَ، فقالوا: لا يتهيأ لنا معاودةُ الملك، وما جرتْ عادةٌ بذلك، وطالما سمعنا مثل هذا مِن غيرك، حبًّا بالحياة وكراهةً للموت. وقاموا بما كان في الكتاب: "إذا أتاكم حاملُ كتابي هذا فاذبحوه، واسلخوه، واحشوه التبنَ، ووجِّهوه إليَّ". فذبحوه، وسلخوا جلدَه، ووجَّهوا به إليه.
وبينما كان الملكُ ينتظرُ رؤية الحاجب مذبوحًا مسلوخًا محشوًّا بالتبن، رأى رجلًا آخر يعمل في البلاط لا علاقة له بما كان، وتعجَّب غايةَ العجب، وحدَّثته نفسُه بشيء، وللملوك خبرةٌ بما في الناس مِن حسد وكيد، وظنَّ أنه تعجّل بما فعل بالحاجب إذ سلمه الله وأنقذه، وذُبح شخصٌ آخر مكانه، وأرسل إلى فلانٍ الذابح مُستوضحًا متثبتًا، فعاد الرسولُ بالكتاب الملكي، فلم يبق مجالٌ للشك في صواب التنفيذ، وهنا دعا بالحاجب، وحين دخلَ ورأى ذلك الرجلَ ذبيحًا شحب لونُه، وألمّتْ به الهواجسُ كلها إلا أن يكون ذلك الرجل قد كاد له تلك المكيدة، فهدأ الملكُ مِن روعه وقال له: تعالَ وحدِّثني واصدقني، لمّا أدنيتُك لماذا قبضتَ على أنفك، وكيف وصل كتابي إلى هذا الرجل؟
قال: أيها الملكُ إنَّ هذا الرجل (المذبوح) دعاني إلى بيته، واحتفل بي، وتظاهر بإكرامي، واتخذَ مرَقةً، وأكثرَ فيها الثومَ، فأطعَمني، فلمّا أنْ أدناني الملكُ قلتُ: يتأذى الملكُ بريح الثوم مني، فوضعتُ يدي على فمي وأنفي احترامًا وإكبارًا، وأنفةً له وإجلالًا.
فعرف الملكُ أن المذبوحَ دبَّر للحاجبِ الناصحِ الأمينِ مكيدةً ليبعده عنه، وأعماه الطمعُ عن احتمال عقوبةٍ يشتملُ خطابُ الملكِ عليها، وأنه ذبح نفسه بيده، وقال للحاجبْ: ارجعْ إلى مكانك، وقلْ ما كنتَ تقولُه، واثبتْ على صدقك، فإنه منجاة وحياة، ودُمْ على نصحك، فإنه أمان واطمئنان. ووصلَه بمالٍ عظيمٍ كما كان يصله مِن قبل ...
ولعل الملك عاد يردِّد بينه وبين نفسه قولَ ذلك الحاجب له: "أيها الملكُ أحسِنْ إلى المُحسن، ودع المسيء تكفِك إساءتُه"، ويلوم نفسه أنه لم يعملْ بهذه الحكمة كما كان ينبغي أنْ يعمل.
وها هو ذلك المسيء كفته إساءتُه عن إساءة أحدٍ غيرِه إليه.
وها هو المحسنُ صانه إحسانُه عن الوقوع في مهاوي المُسيئين.
وعاد الحاجبُ إلى مكانه ومكانته، وحُمل الحاسدُ الماكرُ إلى حفرته.
ودوَّنَ المؤرِّخون في كتبهم، والحكماءُ في أسفارهم:
(أيها الإنسانُ أحسِنْ إلى المُحسن، ودع المسيء تكفِك إساءتُه).
***
روى (أصلَ) الحكايةِ الإمامُ أبو نُعيم الأصبهاني في كتابه "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (2/ 228- 229) فقال: "حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا محمد بن حمزة، قال: ثنا علي بن سهل، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حمّاد بن سلمة، عن حميد، عن بكر بن عبد الله، قال". وقد أعملتُ فيها القلمَ توضيحًا وبيانًا.
***


الحسد. المكر. العدل الرباني


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


شكرا على هذه القصة المثمرة النافعةو اتمنى ان تجود علينا بأمثالها