مدونة محمد كريم الساعدي


الهوية الجمالية (الابتكار والهوية )/ الجزء الثالث

أ.د محمد كريم الساعدي | Mohamad kareem Alsaadi


24/10/2022 القراءات: 586  


إنَّ الحرب مع طروادة هي من أجل الزعامة والإخضاع ، والصورة من الصراع الأولي أوجد في الفكر الغربي تجربة متقصدة أبدعها شاعر إغريقي في ملحمته الشعرية ، ولكن المهم فيها البطل المخلّص وصورته التي اصبحت الدائرة الأبرز في هذه التجربة المستمدة من أحداث التاريخ ، ويرى (والتر كاوفمان) في كتابه (التراجيديا والفلسفة): "إنَ هوميروس لم يسرد أحداث السنوات العشر التي استغرقتها الحرب ، ولا حتى أبرز أحداث حرب طروادة ، بل هو يختار موضوعاً وحداً ، هو غضب (آخيل) ، ويقصر قصيدته على زمن محدود بصورة مدهشة . أما الأحداث الواقعة خارج هذا المدى الزمني ، والتي يرغب في طرح فإنه يقدمها من خلال الأحاديث . وكان مبدأ الترتيب الذي نظم به قصته هو الصراع وعلى أوضح المستويات ، فقد تصور الحرب باعتبارها سلاسل من الصراعات" (8) تؤدي الى بناء صور لعملية بناء الشكل الرائع في صورة البطل الذي يؤول اليه الأمور فيما بعد وصولاً الى أنتاج عملية محكمة في شكل وهيئة البطل المخلّص ، ويعمل على جعل الأحداث كلها تدور حول ما يقوم به ، أو ما يريد القيام به تجاه من يعارض مواقفه . ولكن يبقى موقف البطل وفياً لصالح المرجعيات العليا التي تتحكم بالصيغ العليا للدولة وليس تجاه مقتضيات المعايير أخرى خارج هذا الفكر ، بل إنَّ توجهات (أخيل ) عند (هوميروس) من أجل المصالح العليا لليونان ، والذي سيصبح فيما بعد المتمركز الأساسي والمهم في إنتاج وإعادة خلق صورة لتجربة تاريخية متقصدة في الوعي الغربي وهويته الجمالية في هذا المجال . ويمكن أن نؤشر أن (هوميروس) هو صورة للفنان الباصر ومن المساهمين في إنتاج هوية مبتكرة في تجربته الملحمية ذات البعد القصدي في تأسيس وعي جمالي غربي يعمل من أجل المصالح العليا للدولة ولكن على وفق المبدأ وبناء ميتافيزيقيا قائمة على مرجعيات التمركز الجمالي في الثقافة الغربية ، قد الهمها قراء هذه التجربة في إيجاد البعد في الذات الغربية . فالفنان في هذه المسألة أصبح من الذين ابتكروا واجتهدوا في إعادة خلق التجربة بطريقة تفعّل النواة الأولى للذات المتمركزة حول البعد التاريخي للهوية الثقافية والجمالية الغربية وللغائية التاريخية من ورائها . وهذه التجربة التاريخية في الصراع مع (طروادة) وإعادة خلق الصراع في (الإلياذة) جعلت من هذا الفكر يركز في صياغة الهوية ذات البعد المعياري القائم على صورة التكامل في انتاج البطل وفي ابتكار الذات المتمركزة على صورة البطل المخلّص ، الذي يظهر في وقت يراد منه أظهار الانتصار والقوة والسيطرة على الآخر المهزوم .
إنَّ التركيز على إعادة خلق البطل المخلّص في الملاحم اليونانية القديمة ، تعد عملية تتمحور حول فكرة إنتاج ذات قوية تعيد للماضي أمجاده في صياغات جديدة تشكل النواة الأساسية للبعد المفاهيمي للمعطى الجمالي ، وبناء صورة مكملة تنطلق من بطولات الماضي ذات البعد الحضوري في دلالة تعمل على إعادة أنتاج الوعي بذلك التاريخ والتذكير به متى ما ضعف في الذاكرة الجمعية اليونانية، أو بث ظهوره المتكرر للماضي في صورة البطل الفردي القاهر الذي أصبح ملهماً للجماعة في ظهور ثاني وبروز هذه الجماعة التي استمدت من البطل حضورها . ويعني إعادة خلق (آخيل) على مستوى الذات الجمالية المؤسسة ، هو ذات بعد دلالي في البناء القصدي في الفكر الغربي وميتافيزيقياه المتمركزة في الذاكرة ذات البعد التوليدي للبطل والبطولة في مراحل أخرى متقدمة . بحث (هوميروس) عن معاني معينه في بطله وفي ما يقدمه للإغريق في ذلك العصر ليشكل من خلالها هوية خاصة لصورة البطل من خلال معايير خاصة بالصورة الملحمة لديه " فقد أستخدم تعبير الرائع ، التناسق ، الجمال ، ففي رأيه كل ما هو جميل ومتناسق ورائع هو واقعي يستطيع الإنسان أن يفهمه ويلمسه بحواسه ، فالفن عنده حرفة " (9)، توظف لهذا الفهم في التكوين الجمالي للهوية في بعدها التاريخي وغائيتها في المقصد لمراد اظهاره فيما بعد في التمركز الغربي .
الهوامش
(هوميروس) ابن (كريثيس) ابنة (ميلانوفوس)، ولدته أمه على ضفة نهر (ميليس) في ضاحية (أزمير) ودعته ميليسا (جينيس) أي : ابن النهر (ميليس) ، رباه (فيميوس) زوج أمه وتعهد بتعليمه حتى كبر وبعد موت (فيميوس) ورث (هوميروس) المدرسة التي كان يملكها (فيموس) فأصبح معلمها الأول ، حتى ذاع صيته بين أهاليها وأصبح من المعروفين فيها ، ومن مؤلفاته ملحمتي (الإلياذة والأوديسة). ينظر: سليمان البستاني : مقدمة ملحمة الإلياذة : هوميروس : الإلياذة ، ترجمة : سليمان البستاني ، القاهرة : كلمات عربية للترجمة والنشر ،2011،ص14.
(الإلياذة) أو (الإلياس) تنسب الى (إليون) عاصمة بلاد (الطرواد) ، وهي ملحمة وضعها (هوميروس) تناولت موضوع واحد هو (غيظ آخيل) ، وفي مجمل القصة كان في جملة السبايا فتاة جميلة وقعت في سهم (آخيل) فانتزعها منه (أغاممنون) وهو ملكهم وأستخلصها لنفسه فعظم الأمر على (آخيل) وكاد يبطش بـ(أغاممنون) لولا أن (أثينا) إلهة الحكمة هبطت من السماء وصدَّته قسراً ، وأعتزل (آخيل) القتال هو ومجموعته ، بالحرب الدائرة بين الإغريق والطرواد ، فاشتدت المعارك بين الطرفين حتى كاد الطرواد ينتصرون على الإغريق ، فأرسل الإغريق وفودهم لاسترضاء (آخيل) فما زاد إلا عتواً وكبراً ، فوقعت هيبة (هكتور) زعيم الطرواد وابن ملكهم (بريام) في قلوب الإغريق ، ومازال الغلبة للطرواد عليهم . فكان لـ(آخيل) صديق حميم هو (فترقل) فتى جمع بين كرم الخلال وبسالة الأبطال صحب (آخيل) في معتزله ، فألح على (آخيل) من أجل الإشتراك في المعارك ، ولما اشتدت الأزمة على الإغريق وكاد (هكتور) ورجاله يقضون عليهم ، وافق (آخيل) على أشتراك صديقه في الحرب وبعد أن نصرهم وكاد يهزم الطرواد أستطاع (هكتور) من قتل (فترقل) ، فعلم (آخيل) بموت صديقه فأزداد حزناً وقرر أن يشترك في الحرب ، حتى قتل (هكتور) وأذل الطرواد وملكهم (بريام) وأنتصر لدم صديقه وللإغريق منهم . ينظر: سليمان البستاني : مقدمة ملحمة الإلياذة : هوميروس : المصدر نفسه ، ص 30 ،ص32.


الهوية ، الجمال


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع