مدونة د. جميل مثنى الحبري


الموتُ يُغيِّبُ رُوحَي علّامتي العربيّة في المشرق العربي وفي مغربه (2)

د. جميل مثنى الحبري | Jameel Alhipary


09/04/2022 القراءات: 826  


أمّا د. محمّد مفتاح، الذي تشرّفت بدراسة مشروعه العلمي، في رسالتي للماجستير عام 2015م، جامعة صنعاء، الموسومة بـ"آليات قراءة التراث البلاغي والنقدي في النقد العربيّ المعاصر- محمد مفتاح أنموذجًا"، فإنّ مؤلّفاته لا تقتصرُ على النّهل من علمٍ معرفيٍ بعينه، أو الاشتغال على علوم العربية: أدبًا وبلاغة ونقدًا فحسب، بل يمتحُ فيها من علومٍ ومعارفَ شتّى. إذ عُني عناية بالغة بمجموع التراث كلّه اليوناني والعربي من جهةٍ؛ لقناعته بأنّ التراث منظومة متكاملة، والتراث البلاغيّ والنقدي جزءان منه، وثيقا الصلة ببقيّة علومه ومعارفه لا ينفكّان عنها أبدًا، وعُني من جهة أخرى بالنظريّات والمناهج الحديثة والحداثيّة في مختلف العلوم الإنسانية والطبيعية. بالإضافة إلى اهتمامه بتتبّع آليات معظم تلك العلوم والمعارف وطرائقها، سواء كانت منطقيّةً أم رياضيّةً أم بلاغيّةً أم نقديّةً أم ثقافيّةً أم تاريخيّةً أم فلسفيّة أم ... لذا فإنّ هذا التنوّع المعرفيّ المتعددة روافده، التراثيّة منها والمعاصرة على حدٍ سواء، يُعدّ سمةً فريدة، وخاصيّةً يمتازُ بها (محمّد مفتاح)، وتُميّزه في الآن ذاته عن غيره من الباحثين والمفكّرين العرب ؛ والتي كانت لها الأثر البالغ في صقل فكره، وتوسيع مداركه، وصياغة رؤيته، وصناعة شخصيته الذاتيّة والعلميّة. وتتمثّل هذه الروافدُ في الآتي(2):
1- حفظه للقرآن الكريم في صباه، مكرّرًا إياه- كما يُبيّن- سبع مرات أو (سلكات)، وكاتبًا إيّاه بحسب تقاليد المصحف العثماني، وتاليًا له بحسب رواية ورش، ثم برواية البصري(3).
2- تتلمذته حينئذٍ على أيدي فقهاء.
3- حفظه في صباه (الأجروميّة)، ومتن (الألفيّة)، ومتن (المرشد المعين)، و(العاصميّة)، وأجزاء من كتاب الشيخ خليل، مع الاطّلاع على شروحها.
4- التحاقه بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرباط، وتلمذته فيها على كبار الأساتذة التي كانت تضمّهم الكليّة؛ ممّن لهم باعٌ في الثقافة الحديثة والمعاصرة، وكذلك التراثيّة الذين كانوا صلة وصلٍ بينه والثقافة العربية الأصيلة، وبينه وبعض التصوّرات النظريّة والتطبيقات الحديثة والمعاصرة. فمن المغاربة على سبيل المثال: محمد عزيز لحبابي، ومحمد أركون، ومحمد ابن شريفة، وكذلك من الجزائريين والسوريين، أمثال: هاشم حكمت، وأمجد الطرابلسي، وشكري فيصل، وسامي الدّهان، وصالح الأشتر، وإلى جانب هؤلاء من المغاربة الشباب: محمد برّادة، وعلي أومليل، ومحمد قبلي... وكذلك ضمّها للعديد من الأساتذة المصريين المباشرين، أمثال: طه حسين، وأحمد أمين، وشوقي ضيف، و... وعزّ الدين إسماعيل في وقتٍ لاحق.
5- اهتمامه بالتحقيق، ومن ذلك تحقيقه في رسالة علميّة (الماجستير) لديوان لسان الدين ابن الخطيب، وجمعه أيضًا وتقديمه بإشراف الدكتور (محمد ابن شريفة).
6- اهتمامه البالغ بعلوم التراث العربي ومعارفه المختلفة، وكذلك بعض علوم التراث اليوناني؛ وذلك نحو: الفقه وعلم الأصول والبلاغة والتاريخ وعلم العروض والتصوّف والفلسفة والمنطق والأدب والموسيقى و...
7- احتفاؤه بالعلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، وبالنظريات الحداثية والما بعد الحداثية والإفادة منها، وكذلك توظيفها في مؤلّفاته؛ نحو: النظرية البيولوجيّة، والكارثيّة، والحرمان، والشكل الهندسيّ، والعمل والتواصل، والذكاء الاصطناعي، ونظريات علم النفس والاجتماع والفلسفة والتاريخ، والدراسات الثقافية والتاريخية، وعلوم الإناسة و... ناهيك عن استعانته ببعض المتخصّصين في توضيح ما أشكل منها.
8- تأثّره بالتحوّلات الكبرى الداخليّة والخارجيّة تأثرًا بالغًا في مسار تكوين رؤيته، وأثر ذلك في الإسهام في تحديثها. ومن بين العوامل الخارجيّة: الطفرة المتعدّدة الأنواع والأشكال التي حصلت في أوربّا بعد الحرب العالمية الثانية، والحركات التحرّرية التي اندلعت في المستعمرات ضد القوّات المحتلة، والحركة الطلابيّة الفرنسيّة الشائعة الذكر، والحركة المناهضة للأيديولوجية الليبرالية المتوحشة... وكان يؤطّر كل ذلك فكر ما بعد الحداثة ذو الأوجه المتعددة، وما قبل الحداثة أيضًا. وكذلك كان لقدوم (رولان بارت) للتدريس في كليّة الآداب بالرباط، ودعوة الكلية أيضًا لبعض رموز التحديث لإلقاء محاضرات خاصة بالطلبة، وعامة للجمهور، أمثال: محمد أركون ومارتيني وغريماس. ممّا أدّى إلى فتح آفاق للتجديد في البحوث اللسانية والمنطقية والتاريخية والاجتماعية من قِبَل مجموعة من الباحثين المغاربة. لكنّه يبيّن أنه انخرط في هذا المناخ الجديد انخراطًا متّزنًا عقلانيًّا مضبوطًا بتكوينه العربي الإسلامي الأصيل.
9- إلمامُه بلغتين أجنبيتين وإجادتهما إلى جانب اللغة العربية، وهما: الفرنسيّة والإنجليزية، ممّا أسهم في اطلاعه على العديد من المراجع والمصادر والإفادة منها. وعلى الرغم من ذلك، فقد رفض الاشتغال بالترجمة، أي ترجمة بعض المؤلّفات إلى العربيّة، بخلاف صنوه جابر عصفور.
ويتّسمُ مشروع محمد مفتاح العلمي بسماتٍ عدّة، لا بدّ منها في شتّى مجالات العلوم، لتحقّق هذا الوصف، أو صفة حيازة (المشروع العلميّ)، وبالتالي إطلاقه على مفكّرٍ أو فيلسوفٍ أو ناقدٍ أو عالمٍ ما، ومنحه إيّاه. ذلك أنّ هذه الصفة لا تُمنح عبثًا أو اعتباطًا، بل لا بدّ لذلك من تحقّق شروطٍ ضروريةٍ تتلازمُ والأسسَ العلميّة والمنهجيّة، وتخضع لآليّاتها وقواعدها ومبادئها. ومن تلك الشروط ما يأتي:
- النسقيّة: وتعني أن يكون مشروعُه ذا وِحدةٍ في موضوعه، أي أن يسيرَ وفق نسق واحد، وعلى منوالٍ متّحدٍ في الأسس والآليّات والمنهجيّة.
- الاستمراريّة: أي أن يكون مستمرًا في التأليف والكتابة، مخلصًا لمشروعه فيما ألزم به نفسه من اقتفاءٍ لتلك الأسس والآليات.
- الانتظام: ويُراد به أن تنبثق مؤلّفاته وتتناسل بعضها من بعض، أي أن تكون مترابطة؛ كل منها يُعدّ لبنةً في صرحٍ شامخٍ، وحلقةً ترتبط بحلقات أخر؛ كل منها تمسك بزمام الأخرى وتتوالد عنها.
- طرحُ فرضيّات مركزيّة أساسيّة، وأخرى فرعيّة، يقوم عليها المشروع وينبني، وهي دائمًا ما تُوجهه.


علامتا العربية، المشرق العربي ومغربه، جابر عصفور، محمد مفتاح


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع