مدونة محمد كريم الساعدي


الجماليات المحاكاتية /الجزء الثالث

أ.د محمد كريم الساعدي | Mohamad kareem Alsaadi


05/10/2022 القراءات: 641  


في الإحساس ينتقل الفنان بالتعامل مع المادة من الطبيعة الى الفكر ، وفي الخيال يحاول أن يضفي على هذه المادة الجمال الذي هو خارج حدود الطبيعة ، ولكن أي طبيعة يقصدها (أرسطو) ، هي الطبيعة المباشرة للعيان في لحظة ما ، وليس كل الطبيعة كمفهوم عام ، أي أن الموضوع المباشر المراد محاكاته من قبل الفنان ويضيف اليه من خياله ، وهذا الموضوع الطبيعي المباشر هو بحاجة الى تعديل ، أو أضافة ، ويأتي دور الفنان من خلال هذه الدائرة الجمالية التي يقدمها الفنان في عمله الفني الذي يختلف بوسائل محاكاته من فن الى آخر ، أي " أن وسائل المحاكاة تختلف فتختلف تبعاً لطبيعة الفن المستخدم ، فقد تستخدم المحاكاة الألوان والرسم كما في الفنون التشكيلية ، أو يستخدم الصوت كما في الموسيقى ، أو الايقاع (Rythm) كما هو الحال في فن الرقص ، ويستخدم الإيقاع والنغم ، أو الانسجام (Harmony) كما في الموسيقى الآلية كموسيقى الناي ، أو قد يستخدم اللغة كما في محاورات (افلاطون) وقد تستخدم اللغة والإيقاع كما في الشعر الغنائي والملحمي ، أو تستخدم الوسائل الثلاث اللغة والإيقاع والنغم كما في فن التراجيديا " (8) ، لكل فن من أنواع الفنون وسيلة من الوسائل تنسجم معه حين تطبيقها في الفن المتوافق معها. والنفس هي أساس في كل فن ومحاكاته ، ومدى تأثيرها في النفس للوصول الى اللذة المنشودة ، فمثلاً نلاحظ أن (أرسطو) يعد الموسيقى من الفنون المهمة بالنسبة لفن المحاكاة القريبة للنفس والتربية وللناشئة ، فهي تحقق المستوى الأعلى التي تطمح له النفس في المحاكاة ، فالموسيقى يصفها (أرسطو) "بأنها أقدر الفنون على تحقيق المحاكاة . ولكي نفهم مقصده من هذه العبارة يجدر بنا أن نفسر ما يعنيه بالمحاكاة هنا فهو أقرب الى التعبير عن حالات النفس وانفعالاتها . فهو يقول : إننا نجد الموسيقى والشعر أحسن محاكاة طبيعية لحالات النفس من غضب وليونة ، أو شجاعة ، أو أتزان ، أو نقائضها ، وهذا واضح بالتجربة لأننا نحس آثارها في انفسنا " (9). وعندما يعطي (أرسطو) مساحة كافية للموسيقى والشعر في عملية المحاكاة ، فإنه يرى بإن الموسيقى تتعامل مع عالم النفس المجرد ، والإحساس الذي يرتفع بهذه النفس الى مستويات من الرفعة والرقي ، كون الموسيقى هي من الفنون التي تجذب الأنفس لعذوبتها ولذتها الروحية التي تضفي على الأنسان البهجة والسعادة من دون أن يكون هنالك وسيط يحاول أن يقرب النفس البشرية اليها . فالأنغام هي الأقدر على خلق الانسجام بينها وبين النفس البشرية .
كذلك فإن (أرسطو) قد وضع لفنون الشعر أهمية خاصة في المحاكاة من خلال تأليف كتاب حمل أسم (فن الشعر) ، والذي تناول فيه المحاكاة ، التي يرى فيها اختلاف بين فنون الشعر ذاته ، كما في محاكاة الفضيلة والرذيلة ، وكلها تعود للنفس البشرية ، فهو يرى الآتي :" ولما كان المحاكون إنما يحاكون أفعالاً أصحابها هم بالضرورة أما أخيار أو أشرار ، لأن اختلاف الأخلاق يكاد ينحصر في هاتين الطبقتين ،إذ تختلف أخلاق الناس جميعاً بالرذيلة والفضيلة – فإن (الشعراء) يحاكون :إما من هم أفضل منا ، أو أسوأ ، أو مساوون لنا، شأنهم شأن الرسامين ، فأن (فولو غنوطس) مثلاً كان يصور الناس خيراً من واقع حالهم ، و(فوسون) أسوأ مما هم عليه ، و(ديونيسوس) كما في الواقع . فمن البين إذن أن كل نوع من المحاكيات التي تحدثنا عنها بنفس الفوارق ويختلف كما قلنا بأختلاف الموضوعات" (10) التي يراد محاكاتها من قبل الرسامين الثلاثة الذي بين لنا (أرسطو) في كتاب (فن الشعر) . إنَّ هذه المحاكاة هي من تعطي لطبيعة الموضوع حقه في تناول طبيعة الشيء المحاكي ، أو الفعل المحاكي ، على أعتبار أن المحاكاة الشعرية تناولت أنواع معينة من المحاكاة الشعرية ، وبين فيها الاختلاف ،أو الفروقات حسب ما يأتي : (الوسائل ، والموضوعات ، والطريقة ) . يرى (أرسطو) الشعر بصورة عامة أنه قائم على وفق المعطيات العامة لسببين : هما المحاكاة وهي غريزة انسانية تظهر منذ الطفولة عند الأنسان ، وكذلك اللذة . والمحاكاة واللذة اللاتي يؤطران الفعل البشري ونفسه الباحثة عن الجمال ، أنتجت عند الشعراء طبائع ارتبطت بطبيعة وشكل الفعل المحاكاتي الذي يقدمونه في نتاجاتهم الشعرية ، فأصحاب النفوس النبيلة يحاكون الفعل النبيل ، وأصحاب النفوس الخسيسة يحاكون الأفعال الدنيئة ، فأنشأوا الأهاجي ، ونوع آخر أنشأوا الأناشيد والمدائح .(11) ومن خلال طبائع الشعراء والموضوعات وطريقة المحاكاة وأساليبها ، نشأت كل من المأساة وهي محاكاة فعل نبيل تام ، أي محاكاة أصحاب النفوس النبيلة ، والملهاة التي تحاكي أراذل الناس ، كما قدمت القصائد التي تحاكي البطولة وأخرى تحاكي مواضيع أقل من ذلك وحسب طابع المحاكاة عند (أرسطو).
الهوامش
1. أرسطو : دعوة للفلسفة ، شرح وتعليق : د. عبد الغفار مكاوي ، بيروت : دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، ب، ت ، ص37.
2. د. غادة المقدم عذره : فلسفة النظريات الجمالية ، بيروت :جروس برس، 1996، ص61، ص62.
3. ول ديورانت : مباهج الفلسفة ، الكتاب الأول ، ترجمة : أحمد فؤاد الأهواني ، القاهرة : المركز القومي للترجمة ، 2015، ص285.
4. د. أنصاف جميل الربضي : علم الجمال بين الفلسفة والأبداع ، عمان : دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، 1995، ص30.
5. د . أميرة حلمي مطر : الفلسفة اليونانية ، تاريخها ومشكلاتها ، القاهرة : دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع ، 1998، ص336.
6. الدكتورة غادة المقدم عذره : المصدر نفسه ، ص61.
7. أرسطو طاليس : كتاب النفس ، ترجمة : أحمد فؤاد الأهواني ، القاهرة : المركز القومي للترجمة ، 2015، ص6.
8. د . أميرة حلمي مطر : الفلسفة اليونانية ، المصدر نفسه ، ص337،ص338.
9. نفسه ، ص341.
10. ارسطو طاليس : فن الشعر ، ترجمة : عبد الرحمن بدوي ، بيروت : دار الثقافة ، 1973، ص8.
11. ينظر : نفسه، ص10- ص13.


الجماليات ، المحاكاة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع