مدونة سعد رفعت سرحت


مغلولة إلى العنق و بسطها كلّ البسط (فطرية الكناية و مبدأ الوسط بين رذيلتين)

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


10/04/2022 القراءات: 939  




الكناية ألطف فنّ بلاغي على الإطلاق إذا ما نظرنا إلى فنون البلاغة من جانب الطبع و الافتعال،فهي من أكثر الفنون براءةً ورقّة،نعم فقد لا تخلو الكناية أحيانًا من إشارات فجّة ولكنها مع ذلك لطيفة مستساغة مهضومة،لأن الكناية وإن كانت فيها فجاجة فإنها تغطي على تلك الفجاجة بلطافتها و فطريتها وبما فيها من مكنون اجتماعي برئ. وكان جاكبسون قد أشار إلى كون الكناية وسيلة أدبية اجتماعية شديدة اللصوق بنبض البسطاء والغارقين في همومهم،بخلاف الاستعارة التي هي من أكثر الفنون البلاغية خبثًا ودهاءً.إنّ علاقة الملزوم باللازم في الكناية تعيش على الوضوح والحضور ،بحيث لا تنحرف دلالتها عن الخط الأفقي.على خلاف الاستعارة التي تعيش فيها هذه العلاقة على اللبس و التغييب و اللعب على العواطف.


لا أدّعي أنَّ الكناية في مطلقها فطريّة لأضفي عليها مسحة ربانيّة،ولكني أبادر إلى القول باجتماعيتها مطلقًا و انسيابتها إذا ما قيست بالفنون البلاغية الأخرى،فهي حضوريّة إلى حدّ بعيد و من أقرب الفنون إلى البداهة.


في قوله تعالى:(وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) صورة كنائية مفعمة بالحياة عن صفتي(البخل والإسراف )عِبر حركتين جسديتين:حركة ثني اليد وردّها إلى العنق أو الصدر،وحركة بسطها كلّ البسط،في الأولى:كناية عن البخل،وفي الثانية:كناية عن الإسراف


‏تأمل وانت ترى طفلًا يحمل في يده قطعة من الحلوى فتطلبها منه،تأمل حركة جسده في حالتي الاستجابة والرفض،فإن رفض انظر كيف يجذب ذراعه ويأخذ يده ليربطها بالعنق أو الصدر وقد يشفع ذلك بحركة خصر غير مبالغ فيها*.و إنْ استجاب فتأمّل وهو يناولك إياها كيف يبسط إليك يده بكلّيّتها وبكلّ ما أوتي من براءة.


من عموميات البشر أنّ "الوسط"مرجوّ بالجبلة،و هكذا حين عرّف أرسطو الفضيلة قال:إنّها وسط بين رذيلتين(ينظر كتابه:علم الأخلاق إلى نيقوماخوس:١_ ٢٦٤)
وقد أسيء فهم هذا الوسط:أهو من الفطرة أم ممّا زاده الإنسان وأضافه على حالته الطبيعية،ممّا يفضي ذلك الى القول بأنّ الإنسان في حالته الفطرية متوحّش و مجبول على الرذيلة،ولعلّ هذا الرأي شائع مستشرٍ بين الناس.


لنا في هذه الآية المباركة سبيل إلى شرح هذه القضية والبتّ فيها:فالبخل مرذول في كلّ مذهب ونحلة،ولكنّ البشر مجبولون عليه،فالإنسان كائن أنانيّ بالطبع كما يقول علماء الاجتماع، والأنانية مقدّمة على الإيثار في طبائع البشر، ولهذا _والله أعلم_ قدّمت الآية المباركة لازم البخل على الإيثار المسرف،مع أنّ كلا الاثنين طبع في البشر،فهما فطريّان في مذاهب علماء الاجتماع على ما يتضح ذلك في نظرياتهم،أمّا الوسط فيختلفون فيه،ولا أظنّ أنّ أحدًا منهم_بعد أرسطو_ تحمّس في ردّ هذا المبدأ الربّاني إلى الفطرة،وهذا نابع من اعتمادهم مناهج المقارنة بالاستناد إلى الثنائيات الضديّة التي معها يتلخّص العالم بين هذه الثنائيات(أبيض×أسود _فوق×تحت)فيقع مبدأ الوسطيّة خارج حساباتهم في الغالب، وهكذا يدرج الاجتماعيون هذا المبدأ في دائرة ما زاده البشر على فطرتهم.


والحقّ أنّ "الوسط"فطرة ربانيّة مجبول عليها بنو البشر،لولا أن الشقوة تغلب على طباعهم فيقعون في الرذائل،وعلى هذا فإذا كان البخل والإسراف في البشر فطرة حسب الاجتماعيين،فإنّ"الوسط بينهما"أولى به أن يكون تهذيبًا للفطرة،و عملية التهذيب هذه فطرة أيضًا ،وهي أوغل إلى طباع البشر الربانيّة،فإن يكنِ الله جَبَل عباده على البخل والإسراف،فإنّه تعالى أرشدهم لأن يقفوا وسطًا بينهما فهداهم النجدينِ...وهكذا يردُ الوسط إلى الفطرة.

__________________
*أمَّا إذا بالغ الطفل في حركة الخصر ،فإنّه إذّاك طفلٌ مشيطن أقحم على الفطرة من عندياتهِ إثر تقلبات الحياة به في وقت مبكّر.نعم،فللخصر يعود أخطر أساطير الغواية!.



ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك_الفطرة_ الكناية _الوسطية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع