مدونة د. جميل مثنى الحبري


في إجلال العلماء وتقديرهم منازلهم: د. رياض القرشي (3)

د. جميل مثنى الحبري | Jameel Alhipary


11/04/2022 القراءات: 1070  


وفي هذا الصدد لا أنسى أن أذكر اتّصاله بي المُتكرّر، عندما كنت أعملُ في دار المخطوطات، بصنعاء- وكنّا نُمنعُ حينها من الدخول بالتلفونات- كي يدعوني وبعضَ زملائي في الدراسات العليا للغداء في نادي الشرطة، على شرف عودة الدكتور محمد الكميم من المغرب عام (2013م)، وحصوله على الدكتوراه من جامعة محمد الخامس، ولا أستطيع وصف ما غمرنا به من كرمِ الضيافة وحُسن الوِفَادة.
وممّا أفدناه من هذين الأستاذين الجليلين: البار والقرشي، تلك الهمّة العالية والعزيمة الجبّارة التي لا تكلّ ولا تملّ لدى طالب العلم مهما حصّلَ من علومٍ واكتسبَ من معارف، فكما ورد في الأثر: "اثنانِ لا يشبعانِ: طالبُ العلمِ، وطالبُ المال". فقد أفدنا منهما كثيرًا، معلوماتٍ قيّمة عن الأدب الغربي ونظرياته ومناهجه. ومما ينبغي عدم إغفاله في ذلك، ذِكر ما كان يحرِصُ عليه أستاذنا د. رياض قدر الإمكان، في متابعة بعض الكتب الأجنبية الصادرة، أو بعض النظريّات أو المناهج التي مازالت قيد الدراسة والبحث؛ إذ كان يُعنى كثيرًا بمواكبة المناهج والنظريّات الحداثيّة وما بعد الحداثيّة، وما يُنشر عنها في صفحات المجلّات وأروقة المؤتمرات الغربيّة، فضلًا عن سعيه لترجمة بعض الكتب، وأنه بصدد إحداها، كما أفصحَ لي وزميلي عن ذلك في أحد لقاءاته. ومن ذلك إشارتُه إلى أهميّة كتاب (جراهام ألان، نظريّة التناص، ترجمة: باسل المسالمة، دار التكوين، دمشق، ط1، 2011م)، وما أنجزه د. مصطفى بيومي عبد السلام، في كتابه (التناص: النظرية والممارسة، مؤسسة اليمامة، الرياض، السعودية، ط1، 2010م) الذي ظلّ لمدّةٍ يبحثُ عنه في مكتبته- كما أخبرني- وعند بعض الزملاء، ونسيَ أنه قد أعارني إيّاه. وكذلك حديثه عن (النّقد البيئي) الذي تمّ الترويج له آنذاك، ومن ثم بداية شيوع الكتابات عنه في الصحف والكتابات الغربيّة، وبالتالي انتقال ذلك إلى بعض بلدان العالم على أيدي بعض النقّاد المعنيّين بتوجّهات ما بعد الحداثة. ولا أنسى أيضًا أن أشيرَ إلى إصراره عليّ وزميلي لاكتساب اللغة الإنجليزية وتعلّمها، بل وتواصله مع أحد المختصين آنذاك لتسجيلنا في أحد المعاهد برسومٍ مخفضّة. ذلك لإدراكه أهمية اللّغة الأجنبيّة في تلقي العلوم، وفي اكتساب المعارف. ومما يرويه عن نفسه، أنه لم يلتحق بأحد المعاهد لتعلّم اللغة، بل علّم نفسه بنفسه، وذكرَ لنا، كيف أنّ د. عبد الكريم الإرياني- رحمة الله تغشاه- كان يُشجّعه ويُحفّزه.
لكنّ هذا الاهتمام بالنقد الغربي ونظريّاته ومناهجه، والحرص عليه، لا يعني أنّه منبهرٌ بالحداثةِ الغربيّة وما بعدها انبهارًا بعيد المنال، على حساب علومِ التراث ومعارفه وازدرائها، كما هو شأنُ موقفِ أولئك المناهضين للتراث. على العكس من ذلك؛ فطالما حذّرنا- منذ أن كُنّا في السنوات الأولى- من خطورةِ استخدام المصطلحات الغربيّة، والتولّع بها حدّ الانبهار، والانجرار وراء أطروحاتها ونظريّاتها ومناهجها، لاسيّما منها الحداثية وما بعد الحداثية، كالتناص، والنقد الثقافي، والنسوية، والدراسات الأنثروبولوجية، ونظريات الأنساق، ونحو ذلك، دون مراعاةِ خلفيّاتها المعرفيّة (الإبستمولوجيّة) والفلسفيّة والسياسيّة والدينيّة والثقافيّة، وعدم التنبّه لها. بل إنّ له مواقفَ متشدّدة من تلك الرسائل والأطروحات التي لا تتنبّه لخطورة ذلك، وعلى الأخصِّ منها، تلك التي تتناولُ الخطاب الديني، وتُثير الإشكالات حوله. ومن خلال محاورتنا معه في هذا الصدد، كان كثيرًا ما يُحيل إلى آراء الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، ويتبنّى آراءَه في الحداثة والموقف منها، وتحديدًا في كتابه (روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي، الدار البيضاء، ط1، 2006م). إذ يرى (طه عبد الرحمن) أن اقتضاءَ التطبيقِ لمبادئِ الحداثة المستوردة تطبيقُ روحِ الحداثة، لا تطبيقَ لتطبيقٍ آخرَ لروحِ الحداثة، أي (نسخُ تطبيقٍ آخرَ لها). ويحدّد عبد الرحمن تطبيقَ روحِ الحداثة في ثلاثة مبادئ هي: مبدأ الرشد، ومبدأ النقد، ومبدأ الشمول. أي أن تكون الروحُ الحداثيّة روحًا راشدةً ناقدةً شاملة. فالإبداع والتحديث ينتجُ عن تحقيقِ هذه المبادئ في تطبيق روح الحداثة، مما يتبلورُ عنه إبداعات متعدّدة لروح الحداثة، تختلفُ من شخصٍ إلى آخر، ومن مجتمعٍ إلى آخر، ومن أمّةٍ إلى أخرى حسب المنهجيّات والآليّات المتّبعة. الأمر الذي يدفعُ إلى ترسيخِ مبادئَ الحوارِ بين (الذات) و(الآخر)، والاعتراف بحقّ الاختلاف لا الخلافَ معه من جهةٍ، ونقد (الذات) ووعيها بذاتها من جهةٍ أخرى. لذا عمد عبد الرحمن إلى إعمال ثلاث آليّات تفكيكيّة فيها: (التنسيب) أي أنّ (لكلّ أمةٍ حداثتها المخصوصة)، و(التعديد) (ثمة حداثاتٌ أخرى ممكنة غير هذه المتعارف عليها)، و(التمكينُ) (ما كانت الحداثة قدَرًا بل هي إمكانٌ). كما أنه عدّ روحَ الحداثة الإبداعَ؛ فكما أنّ الإبداعَ يفتح باب المُمكن ويكون متعدّدًا، ويكون نسبيًا، فكذلك هي الحداثة. ولعلّ ما يؤكّد موقف أستاذنا في ذلك، مرجعيّته الدينيّة؛ فقد كان يحثّنا دومًا على الاهتمام بعلومِ الثراث ومعارفه، وعلى المحافظة على قراءة القرآن الكريم، للارتقاء بآليّاتنا وأسلوبنا في الكتابة، وكذلك في التدبّر في أساليبه البلاغيّة وطرائقه اللّغويّة والنحويّة؛ مدلّلًا على ذلك بمنهجيّة أستاذه عبد المنعم تلّيمة الذي كان يستشهد كثيرًا بالقرآن الكريم، ويحفظ بعض آياته، على الرغم من كونه شديدَ النزعة اليساريّة والتوجّه الماركسي.
وختامًا، لا بد من ذِكر مؤلفات أستاذنا التي تمّ الإشارة إلى بعضها سلفًا، في سياق العرض:
الإيجاز، يحيى بن حمزة العلوي، تحقيق، ماجستير، جامعة القاهرة.
النقد الأدبي الحديث في اليمن، مكتبة الجيل الجديد، صنعاء، ط1، 1989م.
شعر الزبيري بين النقد الأدبي وأوهام التكريم، دار الطباعة الحديثة، القاهرة، ط1، 1990م.
بنية الرؤيا: اللغة والدلالة وبناء الشخصية في قصة يوسف عليه السلام، وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، ط1، 2004م.
النسوية: قراءة في الخلفية المعرفية لخطاب المرأة في الغرب، دار حضرموت، المكلا، ط1، 2008م.


في إجلال العلماء، د. رياض القرشي.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع