مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


✍️{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


29/12/2022 القراءات: 535  


✍️{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
يعتمد بعض المسلمين على مقطع من هذه الآية يبرِّرون به قعودهم عن أداء الواجب. ألا هو: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
هذه العبارة القرآنية رخصةٌ لهؤلاء -في زعمهم- في تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورخصةٌ في عدم الجهر بالحق، والصدع بالأمر، وتبليغ الدعوة. تبرر لهم قعودهم وكسلهم، وجبنهم وذلهم، وخوفهم وخشيتهم. إنهم عندما يتعاملون معها هكذا يرتكبون خطيئتين، ويحصلون على إثمين. إنهم يجبنون عن قول كلمة الحق، ويخشون الناس، ويقصرون في أداء الواجب، وهذا خطأ يقود للإثم والعذاب.
ثم يبررون أمراضهم هذه، ويفلسفون مواقفهم هذه، ويلجأون إلى هذه العبارة القرآنية، يحرِّفون معناها، ويشوِّهون دلالتها، وهذا إثمه أعظم.
ثم ينتقلون إلى مرحلةٍ أشدّ خطورة، وجريمةٍ أعظم ضرراً، حيث يتوجهون إلى الدعاة المخلصين، ينتقدون عليهم دعوتهم، ويعيبون عليهم جرأتهم وشجاعتهم، ويواجهونهم بهذه الآية، ويجعلونهم ممن يخالفون معناها، إنهم بإقدامهم وصدعهم وجرأتهم يلقون بأيديهم إلى التهلكة. وكأنهم يريدون أن يقولوا لهم: نحن القاعدون ملتزمون بمعنى الآية، ولهذا فنحن على حق ومثابون عند الله. أما أنتم فمتهوِّرون مخالفون للآية، ولهذا فأنتم على خطأ، وآثمون عند الله.
عند هؤلاء المحرفين القاعدين الساكتين:
كل من يكون رجلاً عزيزاً أبيّاً كريماً، لا يقبل الضيم، ولا يسكت على أذى، ولا يرضى بالذل والهوان، ويقف مواقف الرجال في حياته، فهو متهور يلقي بنفسه إلى التهلكة.
وكل من يصدع بالحق ويجهر بالرأي، وينقد الخطأ، ويهاجم الباطل وأهله، فهو متهور يلقي بنفسه إلى التهلكة.
وكل من يرفض النفاق، والمدح والثناء على من لا يستحقون، فهو متهور يلقي بنفسه إلى التهلكة، وكل من يكون جريئاً واضحاً فصيحاً شجاعاً بليغاً داعيةً متكلماً محاضراً آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر مصلحاً، فهو متهور يلقي بنفسه إلى التهلكة.
أما من كان عكس هؤلاء: يسكت على الذل، ويقبل بالهوان، ويتعايش مع كل وضعٍ وظرف، يتجرَّع كؤوس الإذلال والقهر، ويحرص على وظيفته ودخله وأمواله وأعماله، يجبن عن الكلام، ويخاف من التصريح بالرأي، ويخشى الإفصاح عن المبدأ، ويرفض أن يَنقُد أو يصحح أو يواجه أو يبيّن أو يدعو أو يتكلم. هذا رجلٌ عاقلٌ فطنٌ ذكي، وهو في هذا لا يلقي بنفسه إلى التهلكة، بل هو ملتزمٌ بمعناها، مطبِّقٌ لدلالتها.
فهل الآية لهؤلاء؟ وهل هي " تبرير " لمواقفهم، و " فتوى " لهم في جواز أعمالهم؟.
أخرج أبو داود والترمذي والنسائي وآخرون عن أسلم أبي عمران قال: كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد، فخرج صفٌّ عظيمٌ من الروم، فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم. فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة.
فقام أبو أيوب الأنصاري -صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال: يا أيها الناس: إنكم تتأوَّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. إنا لما أعز الله دينه، وكثُر ناصروه، قال بعضنا لبعضٍ سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله على نبيه يرد علينا: {وَأَنْفِقوا في سَبيلِ اللهِ وَلا تُلْقوا بِأَيْديكُمْ إلى التَهْلُكَة} فكانت التهلكة الإقامة في الأموال، وإصلاحها وترْكنا الغزو. فما زال أبو أيوب غازياً في سبيل الله حتى توفّاه الله. ودفن بالقسطنطينية.
وأخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}: هو ترك النفقة في سبيل الله، مخافة العَيْلَة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال: ليس التهلكة أن يُقْتل الرجل في سبيل الله، ولكنها الإمساك عن النفقة في سبيل الله.
وأخرج البيهقي عن الحسن قال: التهلكة هي البخل.
وأخرج ابن جرير عن البراء بن عازب أنه قيل له: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، هو الرجل يلقى العدو فيقاتل حتى يُقتل؟ قال: لا، ولكن هو الرجل يذنب فيلقي بيديه فيقول: لا يغفر الله لي أبداً.
وأخرج ابن جرير عن أبي إسحاق قال: قلت للبراء بن عازب: يا أبا عمارة: الرجل يلقى ألفاً من العدو فيحمل عليهم، وإنما هو وحده، أيكون ممن قال الله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}؟ فقال: لا. ليقاتل حتى يُقتل: قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَقاتِلْ في سَبيلِ اللهِ لا تكَلَّفُ إلا نَفْسَك}.وقد جعل الإمام الطبري الإِلقاء بالنفس إلى التهلكة شاملاً للمعاني الثلاثة التي ذكرها السلف: وهي ترك النفقة في سبيل الله، وترك الجهاد في سبيل الله، واليأس من رحمة الله عند الذنب.
قال: فإذا كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، ولم يكن الله عز وجل خصَّ منها شيئاً دون شيء. فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله " نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة -وهي العذاب- بترك ما لزمنا من فرائضه. فغير جائزٍ لأحدٍ منّا الدخول في شيءٍ يكرهه الله منا، مما نستوجب بدخولنا فيه عذابه.
ونحن مع الصحابة والتابعين في معنى الآية، حيث يتبيَّن لنا -من الروايات التي أوردناها- أنها تأمر بالإنفاق في سبيل الله، وتعتبر التهلكة ترك الإقدامِ والجهادِ في سبيل الله، وترك النفقة في سبيل الله، أما النفقة فليست تهلكة، وأما الإقدام والجهاد فليس تهلكة ولو أدَّى إلى الاستشهاد.


✍️{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع