مدونة سعد رفعت سرحت


بين (اللغة/ لغة ما)و (الثقافة/ثقافة ما)من مظاهر التداخل المعرفي بين اللسانيات والأنثروبولوجيا

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


09/11/2022 القراءات: 1123  




بين اللسانيات والأنثروبولوجبا وشائج وصلات على أكثر من صعيد،فالتفكير بالثقافة على غرار اللغة ليس جديدًا،كما أنّ مقاربة الثقافة بأدوات لسانية ليس بجديدة هي الأخرى،و من أمثلة هذا التواشج المعرفي بين الحقلين أنّ تفريق الأنثروبولوجيين بين( اللغة) و( لغة ما) هو ذاته التفريق بين (الثقافة)و (ثقافة ما) وهذا ما نسعى إلى توضيحه عبر هذه الأسطر .



نشرع ،أوّلًا، من التمييز الذي يجريه اللسانيون بين ثلاثية(اللغة واللسان و الكلام)فاللغة مفهوم عامّ يستغرق الظاهرة أو المعطى الإلهي الذي يُدعى "اللغة" مطلقًا، أمّا اللسان فيراد به اللغة في إحدى نسخها الاجتماعية المحددة بمجتمع معين، كالعربية والفرنسية والإنجليزية،وحسب تعبير ابن خلدون اللغة التي يمكن لحظها((في كلِّ أمة بحسب اصطلاحاتهم)). أمّا الكلام فهو اللغة التي يسيطر عليها الشخص،أو هي "الأسلوب"الذي هو اللغة في تجليها على لسان فردٍ ما .


ما يهمنا في هذه الثلاثية ثنائية(اللغة/ اللسان) ويمكننا التعبير عنها ب(لغة/لغة ما)فاللغة مفهوم يصدق على كلّ لغات البشر التي لم يقيض لها أن تكون موضوعًا للبحث نظرا لسعتها وخفاء الكثير من جوانبها،إذ لا يمكن تحديدها ولا يمكن_من ثمّ_ إخضاعها للدرس بأي شكل من الأشكال،وإلّا فمن شأن ذلك أن يجد الباحث نفسه عند تناولها محاطا بالأوهام والاساطير .


وعلى الطرف الآخر يمكن ل(لغة ما)أنْ تتحدّد و تقدّم ذاتها للدرس والملاحظة،فإذا كانت(اللغة)عالمية أو كونية يتعذر بلوغها أو الإحاطة بها ،فإنّ(لغة ما)وإن كانت مستقلة عن الفرد مختزنة في الوعي الجمعي،إلّا أنها لا تستحيل على الدرس ولا تعصى على الملاحظة،إذ يمكننا وصفها بالمحليّة قياسا باللغة.


ويظهر التفريق جديًّا بين(لغة/لغة ما)عند اللسانيين بدءًا من سوسير و سابير وبواز، وانتهاءً بكل الذين يشكّون في وجود "لغة كونيّة موحّدة"أو يشكّون في إمكان تدشين خطاب واصف يستوعب خصائص كل اللغات،على غرار محاولات شومسكي وسعيه لبناء"نحو كليّ"بإمكانه رصد المبادئ العامة للغة البشرية.


إنّ لكلّ لغة بناءها الخاص،ولكلّ منها طريقتها في بناء الجمل وصياغة المفردات و إجراء التواصل،ولكي يتحدد موضوع اللسانيات وتتحصن حدودها ينبغي أن تبيّن مجالها في حدود (لغة ما)أي في حدود ما هو كائن و قابل للملاحظة،و من ثمّ عدم النزوع إلى إعمام خصائص لغة معينة على غيرها من اللغات ولا النزوع الى استهداف اللغة بكليتها .


فنحن،إذن،أمام توجهين في الدرس اللساني،أولهما توجّه شموليّ يستهدف اللغة الكونية ويسعى لفرض نماذج نظرية على خصائص كلّ اللغات في الكون،و الآخر توجه نسبي يجنح إلى طرح لسانيات نسبية تستبعد أيّ منزع شمولي عند دراسة اللغة،بالنظر الى أنّ اللغة لكي تكون معرفة لا بدّ من أنْ تتحدّد ب(لغة ما)وكلّما تقلص هذا التحديد كانت نتائج البحث عن خصائص اللغة و بنائها أكثر مصداقية.


وعلى غرار أصحاب اللسانيات النسبية أخذ الأنثروبولوجيون يميزون بين مفهومي( الثقافة) و(ثقافة ما) لدواعي و أسباب خاصة بالدرس الثقافي،و على الآتي:


#الثقافة /مفهوم عام يشمل كل الثقافات الإنسانية في كل زمان و مكان،و على أنها جميعا شيء واحد خاص بالبشر ،و عندما نقول إن مفهوم (الثقافة )عام و شامل فهذا يعني أن الثقافة الإنسانية واحدة مهما اختلفت الشعوب و المجتمعات،وقد كان الأنثروبولوجيون الأوائل يدرسون مجتمعات صغيرة ميدانيا أو وثائقيا و يقومون بتعميم نتائج بحوثهم على كل الثقافات الإنسانية ،بدعوى وحدة النفس البشرية...


فوحدة النفس البشرية مبدأ ذو مغزى تعميمي،إذ يشير هذا المبدأ إلى أن الإنسانية جميعها تشترك في مجموعة من السمات النفسية الثابتة التي لا تتغير مهما اختلفت المواطن و الأزمان و الأديان و الثقافات ،فالإنسان هو هو حيثما حل و حيثما ارتحل،فكل إنسان يشعر ويأكل و ينام و يفرح و يتألم وإلى غير ذلك من عموميات الثقافة التي تشترك فيها البشرية.

والحقّ أنّ وحدة النفس تقرّ بها الأديان كافة،والى هذا أشار القرآن الكريم : (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها ......الآية )(.آل عمران:1)


غير أنّ المغزى الحقيقي من وراء هذا المبدأ لدى الأنثروبولوجيين ليس مطابقًا لما ورد في القرآن والكتب المقدسة،بل هو نابع من فلسفات التمركز الغربي و محاولة الاستحواذ على العالم، وذلك من خلال سعيهم إلى (التعميم) أي أنهم يريدون أن يعمموا نتائج دراساتهم على العالم بأسره ،و هذا هو مكمن الخطورة في مبدأ (وحدة النفس).


#أمّا ثقافة ما : فمفهوم خاص و ضيق يتعلق بثقافة شعب أو فئة معينة ، و على أن ثقافة (شعب ما )أو (مجتمع ما) هو جزء ذو خصوصية من مجموع الثقافة البشرية ......و عندما نقول (ثقافة ما) فهذا يستدعي أن لا نعمم خصائص هذه الثقافة على كل الثقافات الأخرى ،لأن لكل ثقافة خصوصيتها.


فإذا كان مفهوم "الثقافة" يشي بمضمون استحواذي نابع من مبدأ وحدة النفس،فإنّ مفهوم "ثقافة ما" نابع من مبدأ النسبية الثقافية،هذا المبدأ الذي معه تتلاشى مقولات التفوق و الدونية.


و عندئذٍ ،فما يقال عن(اللغة/لغة ما) ينسحب بقوة على(الثقافة/ثقافة ما).


التداخل المعرفي بين اللغة والأنثروبولوجيا )اللغة/لغة ما)و( الثقافة/ثقافة ما)


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع