مدونة سعد رفعت سرحت


وعلى أُ"مَمٍ مِمَّنْ مَ"عَكَ (cv_ cvc_cvc_cvc_cv )وفق نظرية شتراوس في القرابة

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


08/04/2022 القراءات: 1061  


.

بدءًا،ننبّه إلى أمر مهم: حين يتحدث علماء الإنسان عن أنظمة الزواج في المجتمعات القديمة كثيرًا ما يلتبس الأمر لدينا،بل لديهم أيضًا! فيما إذا كانوا يتحدثون عن الزواج الداخلي أم عن زنا المحارم،وهذا اللبس يعد من القضايا المشكلة في الخطاب الأنثروبولوجي،والسبب في ذلك _على أغلب الظن_هو أنّ هناك ثقافات تحرّم الزواج الداخلي فيعامل عندها معاملة سفاح المحارم...وهنا ننبّه إلى أننا نخرج فكرة سفاح المحارم من حساباتنا.


يدور الحديث كثيرًا حول تكرار الميم ثماني مرات في قوله تعالى:(قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)[هود:٤٨].

وأذكر أنّ أحد الأصدقاء المقربين قبل أشهر تلا الآية المباركة أمامي و أخذنا نعيد كتابتها معًا،و فجأة تذكرت مع نفسي كلود ليفي شتراوس و تأويلاته اللسانية للثقافة ،وبخاصة تأويلاته وفق مقاسات علم الأصوات الوظيفي و فكرة السمات الخلافية،وهو يفسّر أنظمة القرابة وقواعد الزواج لدى البدائيين.


لسنا هنا في حاجة الى تأكيد الإعجاز الصوتي في الإية،فقد تحدث عنه أهل اللغة كثيرًا،فسرّ الإعجاز فيها هو خرق قانون السمات الخلافية الذي يفضي حتمًا الى( امتناع تكرار الفونيمات إلى هذا الحدّ)،ففي الآية تكرار خمس ميمات عند قوله تعالى:( أُمَمٍ مِنْ مَنْ معك )و لكنها حين تُدغم تقرأ هكذا:(أُمَمِمِّمَّمَّعَكْ)،لأنك تقلب تنوين (أُمَمٍ )ميماً فعند هذا تجتمع ثلاث ميمات،ثم تقلب نون ( مِنْ الجارة)ميماً فتجتمع خمس ميمات،ثمَّ تقلب نون (مَنْ الموصولة) ميماً فتجتمع سبع ميمات،تضاف إليها (ميم معَ) لنكون إزاء ثماني ميمات، و وفقًا لتقنية التقطيع تجتمع هذه الميمات في خمسة مقاطع"مَمٍ مِمَّنْ مَ = cv_ cvc_cvc _cvc_cv"،مستهلة ومختومة بمقطع قصير مفتوح،تتوسطهما ثلاثة مقاطع متوسطة مغلقة.


وحقًّا ،فهو من عجيب النظم،يلذُّ بنطقه اللسان و ينساب في الأذن من دون أدنى تلكّؤ،و إلّا فمن شأن هكذا تكرار أن يخلّ بالفصاحة،فمن شروط النظم السليم أنْ تتباعد حروف الألفاظ والتراكيب،وقد أشار العلماء قديمًا إلى هذا،ولعلّ حديث ابن سنان الخفاجي عن شروط الفصاحة و ضرورة أن يتألّف النظم من حروف متباعدة المخارج يقارب إلى حدّ بعيد فكرة السمات الخلافية في الدرس الثقافي المعاصر ،إذ يقول: إنّ ((الحروف التي هي أصوات تجري من السمع مجرى الألوان من البصر ،ولا شكَّ في أنّ الألوان المتباينة إذا اجتمعت كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة،ولهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة لقرب ما بينه وبين الأصفر و بعد ما بينه وبين الأسود .وإذا كان هذا موجودًا على هذه الصفة لا يحسن النزاع فيه،كانت العلة في حسن اللفظة المولفة من الحروف المتباعدة هي العلة في حسن النقوش إذا مُزجت من الألوان المتباعدة))[سرّ الفصاحة لابن سنان:٦٦].



مع هذه الآية انظر في قصة سيدنا نوح عليه الصلاة و السلام ،و قفْ أيضًا عند قوله تعالى:(وجعلنا ذريته هم الباقين)[الصافات:٧٧]واستخبر ما جاءت به الآثار عن ذرية سيدنا نوح،ألَا يعبّر تكرار الميم في آية هود عن استمرار النسب و إحداث المصاهرة وتناسل الأمم بين ذريّة واحدة؟.



يعلّل عالم الإنسان الثقافي كلود ليفي شتراوس تحريم زواج الداخلي في جملة من المجتمعات و تحريم( زنا المحارم)* كونيًّا،تعليلًا لسانيًّا غريبًا ،وهو تعليل أريحيّ على قدر ما فيه من غرابة،إذ يعلّل هذه المظهر الكوني وفق نظرية الأصوات الوظيفية عند عالم الصوتيات تروبتسكوي و من بعده عند عالم اللغة العظيم جاكبسون، وذلك بالاعتماد على ما يسمى ب"السمات الخلافية".ذلك أنّ معنى قواعد الزواج لا يمكن أن تفهم إذا بحثت بصورة منعزلة ،بل تظهر للعيان بوصفها متقابلات تبادلية،وعلى الشاكلة ذاتها فإنّ طبيعة الفونيم لا تكمن في تفرّده الصوتي وإنما في العلاقات التقابلية والسلبية التي تربط الفونيمات فيما بينها ،وبناءً على ذلك يفسّر شتراوس فكرة عالميّة (تحريم السفاح)فيرى أنّه كما أنَّ شكل الفونيم هو وسيلة كلية تمامًا في اللغات كلها والذي تأسس التواصل اللغوي به،فإنّ التحريم السفاحي الذي يوجد بصورة كلية أيضًا في حالتها السلبية شكلًا أجوف(بلا معنى)، على حين إذا ما دخلت المجموعات البيولوجية في شبكة من التبادلات لتأسيس التواصل تجعله ممكنا وضروريًّا(انظر مقدمة شتراوس على كتاب محاضرات في الصوت والمعنى لجاكبسون:٢٠)


وإجمالًا يرى شتراوس_وفق مماثلة لغوية_ أنّ الفونيمات (=الوحدات الصوتية الصغرى) إذا تكررت لا تؤدي معنًى،لأن اللغة بطبيعتها خلافية،أي قائمة على شبكة من السمات الفارقة، ومثل ذلك فإنّ أنظمة الزواج والقرابة تسير وفق سمات فارقة،فمثلما لا يؤدي تكرار الفونيمات إلى معنى،كذلك فإنّ الزواج الداخلي في نظر بعض المجتمعات عبارة عن تكرار لا يحصل منه البشر على معنى،و كذا فإنّ سفاح المحارم نبذتها البشريّة بفطرتها لهذا السبب.


ونحن حين نتأمل في قصّة سيدنا نوح عليه السلام نرى كيف انحصرت المصاهرة بالزواج الداخلي،أي بعلاقات تبادلية بين فئة قليلة من الناس سواء أكانوا من أولاد نوح أم من آخرين خارج أهله ولكنهم يؤلّفون جماعة واحدة،أراد الله تعالى بهم استمرار البشرية فتناسلت من خلال تواصلهم الأممُ تلو الأمم.

بقي أن نشير إلى أنّ الفكرة في حاجة الى تكييف و بحث أعمق.



أمم ممن معك _وفق نظام القرابة _شتراوس _فونولوجيا الثقافة_


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع