كم الخبرية:إنشائيّة أم خبريّة(موقعها في نظرية أفعال الكلام)
سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat
03/10/2022 القراءات: 2731
انظر في هذه الأمثلة:
أ_(كم مسكينٍ أطعمتُ!)
ب_(كم عبدٍ لي!)
ج_كم مالئٍ عينيه من شيء غيره!
د_كم تضاحكت عندما كنت أبكي!
يحتمل(أ)أن يكون إنشاءً وأن يكون إخبارًا،فهو إنشاء لأنك تقول ذلك تباهيًا أو افتخارا،ولكي تعبّر عن ذلك اخترتَ من الأساليب"التكثير"،وبما أنّ التباهي والافتخار يقعان في "نفسك"و ليس التحقّق من صدقهما أو كذبهما في الخارج ضرورة،فهو إذن إنشاء. ويحتمل أيضًا الإخبار بالنظر الى إطعامك المساكين واقع و قابل لأن نتحقق منه في الخارج.
وفي(ب)تحتمل كم الإنشاء والخبر أيضًا،فهي تفيد التكثير، والتكثير معنى إنشائي،و المتكلم آثر التعبير عمّا في نفسه من افتخار ب"كم" بغضّ النظر عن إرادة الصدق والكذب.و يحتمل أيضا أن يكون خبرا باعتبار الملكيّة،وأنّ للمتكلم عبيدا لهم وجود في الخارج.[انظر:الأساليب الإنشائية عيد السلام هارون:٢٧]
في(ج)و(د) يبوح المتكلم في( ج)بمّا في نفسه تجاه الناظرين إلى نساء غيرهم عند رمي الجمرات،وهو امر كثير ملفت معلوم يقتضي الإفصاح عما يجول في النفس بسبب ذلك.وفي(د)يبوح المتكلم في(د) بما في نفسه تجاه المخاطب من كثرة تضاحك المحبوب في الوقت الذي فيه يقاسي ويبكي.فالمقام مقام شكوى وعتب و لا يستقيم القول بخبرية كم.
إذن ليست كم خالصة للإخبار،بل هي للإنشاءٌ أيضًا،ولكن هذا الأمر يخفى على الناس لأن النحاة سموها خبريّة ليجعلوها مقابلًا ل"كم" الاستفهامية،بحيث لم يعد أحدنا يذكر اسمها الآخر ((كم التكثيرية)) الا نادرا لغلبة مصطلح الخبرية عليها، حتى أصبح من المضحك الإشارة الى احتمال (كم )معنى الإنشاء أو خلوصها للإنشاء في سياقات معينة،مع أنّنا دأبًا نذيّل جملتها بعلامة ترقيم (!)الدالة على الانفعال.
الإشكال هو أنّ النحاة انشغلوا بتصنيف "كم "شكليًّا،غير أنهم لا يهملون مضامينها الدلالية،إذ يشيرون الى تضمّنها معنى الإنشاء،ومن ذلك قول الرضي الذي يعلل بناءها على السكون((لشبهها باختها الاستفهامية،أو "لتضمّنها معنى الإنشاء الذي هو بالحروف غالبا،كهمزة الاستفهام وحرف التحضيض وغير ذلك،فأشبهت ما تضمّن الحرف))[شرح الكافية: ٣ /١٤٩].
فقد سموها خبريّة لانشغالهم بتمييزها عن كم الاستفهامية، فقالوا:((سميت خبريّة لأنّها تحتمل الصدق والكذب بخلاف الاستفهامية))[ معاني النحو،فاضل السامرائي:٢ /٢٩٣]
ولكنهم في الوقت الذي يشيرون فيه إلى خبرية كم و"كأين" ودلالتهما على التكثير ،فإنهم في الوقت ذاته يتحدثون عن تضمنهما معاني أخرى زيادة على التكثير،وهي معاني انفعالية كالمباهاة والافتخار والمبالغة والتفخيم والتعظيم.
ومن يتأمل في استعمالات ألفاظ التكثير يلحظ أنّ ألفاظ التكثير (كم_ كأين_ربَّ●)تندرج ضمن الانفعالات التي تحدث في النفس((وليس له وجود في الخارج حتى يحتمل الصدق والكذب))[انظر الأساليب الإنشائية،عبد السلام هارون:٢٧]
فالتكثير غرض بلاغي يتعلق بالكمّ مثلما يتعلق التعظيم والمدح والذم والتعجب بالكيف[انظر التداولية عند علماء العرب:١٢٢]وهذا ما يمكن لحظه عند كل من يراجع الآيات القرانية والشواهد والأمثلة، إذ يرى أن استعمال "كم" لا يراد به الإخبار الخالص،وأيضا ففي كتب التفسير ومعاني القرآن يبدأ كلام المفسرين عند الحديث عن كم بوصفها "خبرا أو خبرية" و مع ذلك فإنهم لا يسكتون عن كونها استكثارًا للإفصاح عن انفعال كالغضب والسرور والتباهي أو غير ذلك من الانفعالات التي تستدعي التهويل والتفخيم من خلال التكثير.
وخلاصة القول: تتضمّن كم معنى إنشائيا إلى جانب خبريتها،ولكن في سياقات معينة تأتي خالصة للإنشاء.
تسأل:أين موقع (كم)في أفعال الكلام؟
أنّ"كم"أم باب التكثير ،والتكثير أدخل في(البوحيات) من أيّ غرض آخر، ولهذا قرنوها بنعم وبئس،فتفسير كم بالمدح والذم ليس بجديد،إذ أشار النحاة قديما وحديثا إلى أن ((الدافع إلى استعمال كم الخبرية هو الافتخار والمدح بكثرة شيء محبوب معلوم،أو ذم بكثرة شيء معيب كذلك))[النحو الوافي:٤/٥٧٩]
و يتحدث د. مسعود صحراوي عن ذلك من أن التداوليين لم ينصّوا على فعل كلامي يعادل التكثير،إلا أن التكثير يمكن أنْ يعدّ إنشاءً مقابلًا للإخبار بالكثرة كما كان المدح إنشاءً مقابلا للإخبار بالجودة،فالتكثير اسلوب إنشائي يُعنى بالكم و المدح والذم يعنيان بالكيف. [التداولية عند علماء العرب:١٢٢]
فالمدح والذم ليسا وصفين للجودة وللرداءة الحاصلة في الخارج، بل هما تحسين حسن الممدوح وتقبيح قبح المذموم، أمّا التكثير فإنه قد يراد به وصف الكثرة الواقعة(( فيما مضى من الأزمان)) و قد لا يراد به ذلك، بل يراد به غرض آخر كأن يكون تهويلا أو تعظيما أو تباهيا أو غير ذلك من المشاعر والانفعالات،ففي قوله تعالى:(كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)ليس غرض الآية الإخبار فحسب بل((تحريض من العازمين على القتال وحضٌّ عليه واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق الله...فكثيرا ما انتصر القليل على الكثير،ولما كان قد سبق ذلك في الأزمان الماضية وعملوا بذلك أخبروا بصيغة كم المقتضية للتكثير))[البحر المحيط: ٢ /٢٧٦]
فضلًا عن ذلك فإن لغة الأدبيات المعاصرة أخذت تعبّر ب "كم"عن الكيف وتكاد تجردها من معنى الكمّ، فيقولون(كم أنت رائع_ كم أنت قبيح)
إنّ التكثير وإن أخذ تركيبه شكل الخبر،إلا أنّه إفصاح وانفعال إذ(( ينشيء المتكلم استكثارا لعدد من شيء للتعبير عن الكم))[نفسه:١٢٢] فالأجدر به،إذن، أن يكون غرضًا إنشائيا قائما بذاته،وبالاستناد إلى تمييز التداوليين بين (الغرض) و (الأغراض المتضمنة في القول)،يمكن جعل التكثير غرضًا بذاته ،وهذا الغرض يتضمن أغراضا أخرى كالافتخار والتهويل و التعظيم والمدح والتحضيض والذم والتعجب. والزجر ....الى غير ذلك،و يأتي التكثير عبر ألفاظ و على صيغ وتراكيب كثيرة ذكرها أهل اللغة ،منها:
كم خبرية ام انشائية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع